فاتحة العام الجديد: جنوب ـ شمال مثل أبي فراس وحمامته

اثنين, 2015-01-05 19:14

من المفيد لنا في سائر البلاد العربيّة ـ والسبل تكاد تتقطّع بنا ونحن على عتبة عام جديد ـ أن يُعاد الاعتبار، على خلافاتنا واختلافاتنا؛ إلى هذا المصطلح «الإصلاح»؛ وقد صار فضفاضا كهذا «الشرق الأوسط الكبير» الذي تُعدّ العدة لتحصينه من وباء الإرهاب «الإسلامي»؛ على ما في هذا النعت من إساءة إلى ديانة عظيمة لها أيادٍ بيضاء على البشريّة. ومن الطبيعي أن نختلف بشأن هذا الإصلاح، وقد تحدّد مصدره وأن يخشاه بعضنا، ويرى فيه فيلا هائجا يدوس كلّ ما يعترضه دون أن يلوي على شيء.
وهي خشية لها ما يسوّغها، منذ إطلاق يد إسرائيل في فلسطين، ورفضها حتّى حلّ «الدولتين» على ما فيه من حيف وضيم. على أنّ هذا التبرير أو التسويغ، يبدو واهيا عندما يصدرعن أفراد لم يستطيعوا أن يُفيدوا من التقاليد الفكرية المستنيرة في تراثنا؛ حتى يقطعوا الحبل السرّي الذي يشدّ مجتمعاتنا إلى أصولياّت القرون الخوالي. والاعتراض على الإصلاح بدعوى أنّ مصدره خارجيّ وليس داخليا لا يقوم له سند من واقع أو تاريخ. فقد تقوّضت الحدود والفواصل بين «الخارج» و»الداخل» في عالم اليوم، واستطاعت الحضارة الحديثة من حيث هي مظلّة فكرية عامة، أو ممارسة عمليّة؛ أن تغنم مساحات شاسعة سياسيّة واقتصاديّة وتربويّة واجتماعيّة وثقافيّة. ولم يعد بميسور العرب ولا غيرهم من شعوب العالم الإسلامي أن ينزوُوا في شوارد من ثقافتهم، أو في أساليب من العيش والتقاليد لا تناسب الانقلابات المذهلة في عالم اليوم.
إنّ الاعتراض الحقّ ليس على الإصلاح، كما يقرّر أهل الذكر؛ وإنّما على نموذج من التنمية ما انفكّ المستنيرون من مثقّفي الغرب يكشفون عن نقائصه وسلبيّاته؛ وهو الذي جلب على البشرية مشاكل عسيرة لعلّ أشدّها وطأة تفاقم الحيف الاجتماعي، واتساع الفجوة بين أثرياء العالم وفقرائه، والضّرر الفادح الذي طال موارد الأرض الأساسيّة؛ ولم يعد بالإمكان إبطال أثره أو التخفيف منه. وكلّ هذا يجري على أساس من معادلة حسابيّة انتقائيّة تضرب بجذورها في منطق التوسّع الرأسمالي والتقليد الكولنيالي،على تغيّر الوسائل والوسائط؛ فالهيمنة تتّخذ اليوم أشكالا أشدّ مراوغة وفاعليّة، بعد أن صار الاحتلال يُسمّى تحريرا ومقاومة المحتلّ إرهابا على نحو ما نرى في فلسطين. وهي أشكال يُراد لها أن تكون أكثر قبولا ولطفا إذ تَعدُ هذا العالم «المتخلّف» بالإثراء الذاتي ومشاركة الغرب قدرته الاقتصادية الرائعة، شريطة أن يمتثل لتعليماته وتعاليمه. وما تزال البلاد النامية تصنّف في المنظور الغربي، ك»أشياء» تستدرّ العطف، وتستدعي المساعدة والتدخّل الأبوي.
إنّ أبنية الهيمنة لا تزال على حالها والاقتصاديات الغربيّة ليست مُصابة بعمى الألوان كما يدّعي البعض. وثمّة أصوات ترتفع وتزعم أنّ المجتمعات تحتاج إلى وجهة نظر واحدة متماسكة وإلى نموذج تنمويّ واحد، تمسك صناعته المزوّقة للأيقونات بتلابيب خيال الشعوب؛ بعبارة الأنقليزي جيريمي سيبروك في كتابه الممتع» ضحايا التنمية»، ومن ثمّة تتماثل نتائجه. فضحاياهُ في كلّ مكان من الجنوب والشمال على حدّ سواء. آلاف وآلاف من البشر من بدو ورعاة وصيّادي أسماك وساكني غابات وفلاّحين ومن عمّال المدن وفقرائها، تطاردهم المشروعات الكبرى كالسدود والمطارات والمدن السياحيّة والتقنية في الزراعة وتزايد الآلية في الصناعة. وكلّ هؤلاء يُدفع بهم إلى جحيم المدن والأحياء القذرة المكتظّة، مثلما يُدفع بنسائهم أو بالكثيرات منهنّ إلى صناعة الجنس العامرة بمزادات علنية للحم البشري. كلّ هؤلاء ليس لهم من خيار سوى الحياة في مدن الجنوب الفقيرة المعدمة حيث يموتون كمدا بسبب نمط حياتهم البائس، أو يُتلفون أنفسهم وأجسادهم بما «يُوفّره» لهم المجتمع الصناعي من «حاجات» هي خمور ومخدّرات، لأجل المزيد من تلفهم وضياعهم.
والحاجة كثيرا ما تُعرّف تعريفا فضفاضا، فهي غياب شيء ما حيويّ أو ضروريّ لصيانة الحياة والرفاهيّة. وهذا تعريف يعتريه النقص، ذلك أنّ الحاجات الأساسيّة ـ على بساطتها ـ ثانويّة هي أيضا. ومن نافل القول التذكير بأنّ الحاجة إلى الطعام والمأوى والملبس، لا تُشبع بنفس الطريقة. والسؤال: لماذا تظلّ الحاجات الأساسيّة بعيدة المنال بالنسبة إلى كثير من أبناء أوطاننا؟
الجواب الذي يُساق عادة هو أنّ الثروة لا تلبّي الحاجة أبدا ؛ حتى في الغرب حيث هناك فئات لا تزال تعاني من سوء التغذية أو هي بلا مأوى وبلا عمل، وتيعيش مثل فزّاعات الحقول، في داخل المدينة أو على أطرافها.
وهذا كلّه يشهد على عدم « اندمال الكائن» بعبارة زملائنا من أهل الفلسفة، أو على جرح لم يندمل في ثقافتنا المرتبكة، لعلّةٍ فينا؛ جعلتنا لا نطلب غير مرآة نطيل فيها النظر إلى أنفسنا؛ ولا نرى غير أنفسنا
على أنّ اللافت حقّا في هذا أنّ ما نشكّى منه، يتشكّى منه مثقّفو الغرب. وكأنّنا وهم» أبُو فراس وحمامته»
أيا جارتا ما أنصفَ الدهرُ بيننا تَعَالَيْ أُقَاسِمْكِ الهُمُومَ تَعَالي 
فقد بيّن غير واحد منهم أنّ تكديس الثروة الماديّة في الغرب، رافقه تجريد الناس من البعد الانساني، بل تحويل الانسان إلى لولب من اللحم في آلة من الفولاذ؛ وأفضى إلى أنماط من البؤس: تقطّع أواصر الألفة بين أفراد العائلة أي بين الإخوة والأخوات، وتآكل روابط الصداقة والجيرة، ووقوف الناس عرايا وحيدين؛ وما إلى ذلك من صور الحرمان والبؤس والضياع والعوز والفقد، أو ما يسمّيه «جيريمي سيبروك» في كتابه المشار إليه» خصخصة الاغتراب». يقول:» لقد أصبحنا حقا فلاّحين تكنولوجيّين، ولم نعد نرى إشارات ودلالات لحياتنا في السماء والأشجار والنجوم. ولكنّنا نسعى بطريقة تقوم على الخرافة، إلى الخلاص، وأن يكون لحياتنا معنى في التكنولوجيا والتقدّم وفي مستويات أعلى من الاستهلاك…» ويخلص إلى أنّ الإحساس بالعجز والألم والعنف، جزء جوهريّ من تجربة ملايين الناس في الغرب؛ ولكنّه من المسائل التي يحلّها الفرد عادة في محيطه الضيّق. وهذا ما يفسّر إلى حدّ كبير، سلوك الإدمان وانهيار العائلة ووحشة المجتمع ووحشيّته. وهو يسوق أرقاما مفزعة عن ملايين السجناء، والجوّابين بلا مأوى. وكلّ هذا يُقدّم عادة في الغرب من حيث هو نتائج أفعال أفراد يعانون خللا أو اضطرابا نفسيّا وفسادا عائليّا.
إنّ للفردانيّة في الغرب، غرضًا غير معلن، وهو جعل الناس يمتصّون أعمال القسوة والعنف والوحشيّة ، تحت يافطة النموّ الاقتصادي وخلق الثروة. وممّا يُحمد للكاتب أن يوضّح كيف أنّ هذه اليافطة ملطّخة مخضّبة تُخفي عن الشعوب في الغرب، قرابتها بضحايا الجنوب، وما في التجربة اليوميّة لكليهما ، و في معيشه وحلّه وترحاله ؛ من أوجه التماثل والتطابق.

* كاتب تونسي

منصف الوهايبي*