منير الإدريسي يكتب : العودة الهادئة… عودة الشعر إلى إثكاه

سبت, 2015-01-10 11:36

الشعر حفر أعمق في النفس وتجلّ سعيد للوعي الحر. إنّه حظ الشاعر في أن يصل إلى إدراك مغاير بعيد بشكل ما عن بنية الوعي الجمعي المحدّدة سلفا، ومن تلك المغايرة تتأسّس الدهشة ويتمّ تلمّس الذات والعالم على نحو شفيف يسمهما بعلامات الاحتمال والشساعة.
ممكن أن يبني الشعر هذا الوعي الخاص بأشكال الوعي الجمعي، ولكنّه لا يتأسّس عليها. ممكن أن يبني بها وعيا منفتحا ومفارقا وغريبا، تلك لعبته أيضا وإحدى أساليب مكره القديمة. لكنّ منطلقه ومنطقه هو التمرّد. ليس قطعا ذاك الذي يسلّم به البعض ويلوكه كالعلكة من دون أن يكون فعليّا، جاعلا منه إحساسا سطحيا عاطفيا يبتعد به الشاعر عن العمق إلى الحمق، بل إن التمرد هو تلك الوثبة الكامنة في النص الشعري الحاذق، الذي يقف خلفه الوعي المفارق المتنبّهُ إلى زاوية رؤية مُتمايزة ترصدُ بالنتيجة خللا ما في نظرتنا المعتادة إلى أنفسنا وإلى العالم. وتشيّد جسرا آخر للنظرة، ليس بوصفها البديل المباشر، بل بوصفها الممكن الحرّ مقابل الممكن المقيّد. من هنا يتمظهر شكل التمرّد، منطلقه وغائيته، ومن هنا أيضا يساهم الشعر بنسبته في تخليص العالم من الشرّ والتفرقة والقهر. ويكون دفاعه دفاعا عن الإنسان وعن حريّته، وعن حقّه في أن يوجد خارج نطاق النظرة الضيّقة، والمكان الضيّق، تبعا لبنية العقل وهو يملي عليه ما يجب أن يكونه، باصما هويّته خارج الكيان الحرّ والفاعل، وهو دفاع أيضا عن الطبيعة والكون.
هكذا يتجلّى التمرّد الفعلي بقوّة، مؤسسا لبنية وعي جديدة منفتحة ومُتجاوزة في متاخمتها لمجرى حر بلا ضفاف يتم استقباله من خلال فعل القراءة المتأملة. تبعا لذلك كلّه يشارك الشعر في التغيير من الداخل، من بنية العقل ليفجر كل هذه الألعاب النارية التي تتبدى في سمائه لحظة القراءة. 
إذا كان للشعر دور حقيقي في المشاركة في التغيير الفاعل، فإن دوره يتجلّى هنا بالتحديد في أعمق صورة، وأكملها على الإطلاق. بوصفه وعيا ينطوي على قدرة إبداعية في النظرة من زاوية أخرى إلى العالم عبر الذات الجانحة بشكل عمودي خاطف إلى أبعد نقطة ممكنة، بلا ضجيج ولا ادّعاء فاضح، بل بهدوء كبير يُلمسُ في بياض صفحة الكتابة. يمكن أن نخرج فيه بنقد كثير وثورة هادئة تحدث في وعينا إزاء الذات والعالم.
للأسف الشديد،لا يتمّ تلمسّ هذا الفعل الشعري على نحو احتفالي في قراءتنا لدور الشعر وواجبه إزاء الواقع العربي من مشاكل كثيرة هي بمثابة حجر عثرة أمام التقدم والتحضر، بل ينتظر دائما من الشعر العربي أن يكون صدى هتاف في مناسبة غاضبة هزّت الأمة وألهبت مشاعرها؛ سرعان ما تخمد، ويحاسب الشاعر فيها عن صمته ويتهم بالذاتية والبعد عن القضايا الكبرى لشعبه. تلك إذن هي المعضلة، التي تعرّي وعي بعض المثقفين المتأخرين الذين لم يتخلّصوا بعد من النظرة التقليدية إلى الشعر، التي تحوز سوء فهم خرج عن سكّة الشعر الحقيقية، فانقلب على ظهره ليشاهد أهم النصوص التي تكتب اليوم وهي تمشي على رأسها، بدل أن تثبّت قدميها على أرض انتظاره. إنها معضلة بالفعل حين تطلب من الشعر مساحيق تجميل على السطح، وأن يعكس وعيا جمعيا خفيفا يحمل في ذاته العثرة تلو العثرة في لحظة حماسة.
إن الشعر الفعّال وهو ينظر بوعيه الخاص، يكون منطلقه من الجهة الأخرى متقاطعا مع القيم العالية، من دون أن يلتحم مع النتائج المُدمّرة ما دامت أسبابها تحمل في ذاتها هذا الدمار. إن معانقته للهم الإنساني والوجع الإنساني أكبر من أن يحدّ في قصيدة صارخة وأكبر من أن ينظر إليه من ثقب صغير أحدثته تراكمات وصدف تاريخية ليصير مرجعا جمعيا للنظر إلى ألأمور بطريقة محدودة في الوقت الذي يحوز فيه الشعر عينا بتلك الشساعة.
لذلك، توقفت أهم التجارب الشعرية الواعية اليوم عن هذا الواجب الذي أثقل الشعر، ومنعه من أن يستقل بذاته ويعبّر عن نفسه بالطريقة الأمثل والأنجع. توقفت لتثمر نصوصها وعيا شعريا لافتا، وليس عواطف تلقائية عابرة؛ ولتنصت إلى الأعماق كي ترى العالم أكبر وأوسع. ليست العودة هنا إلى الذات عودة منكفئة أو عودة رومانطيقية متأخّرة كما يتم إفهامنا في محاولات نقدية يائسة، بل عودة منتصرة إلى الوعي الذي يقوده الخيال وينطوي على حرية الفكر والتعبير والنقد والممانعة ضدّ أيّ استيلاب مغلّف بالمشاعر والمسلّمات المتكلّسة والمترسبة في الأذهان. لذلك انفتحت بسبب من هذا الوعي على خيارات عديدة شكليّا وجماليّا وفلسفيّا في انفعالها بالعالم وفي أدقّ تفاصيله أيضا. وأغنت الشعر العربي في العقد الأخير، من دون أن يتمّ تناولها وتحسّس إمكاناتها حتى الآن كما يجب، لأنها شكّلت اختراقا حقيقيّا لأفق انتظار المنكبّين على النقد بدون جرأة إبداع نقدي يتجاوز اجترار الدوزنة الأكاديميّة السريعة نفسها على كمان القراءة. 
هي عودة الشعر إلى إثكاه إذن، عودة إلى وهج الشّعر الخالص، حيث ينبثق عنها التناول الحرّ لكلّ ما يتعلّق بالإنسان والطبيعة والأشياء والفكر واللغة. متيحا لهذه الموضوعات حيّزها المعقول في لعبته الكبيرة. منظورا إليها بالشكل الذي يجعل من تلك العودة نقدا ثوريّا مضيئا ينضاف كسطر إلى منجز القصيدة العربية، فاتحا مسلكا جديدا لتنويعات ومفارقات شعرية مهمّة. تنويعات لمنجز القصيدة العربية الآن، قد نتبيّنُ ثمرتها الناضجة في تجربة دون أخرى، لكنّ التجربتين تُظهران معا قدرة كبيرة على المشي بعيدا بلا عكّازات بلاغية، كما تظهران صراعا مع اللغة الشعرية والسياق الشعري السائد بموضوعاته الحديثة.
فالوعي الشعري هنا، هو الذي يشيّد النص بتوتّره الدائم مع المرجعية المطمئنة للشعر العربي القديم، التي ماتزال عند عتبة الكتابة الحديثة تتثاءب كالقطّة الكسولة متمسّكة بكرة المألوف، راسمة حدود الممكن في القول الشعري للداخلين إليه. وبالنتيجة، من المستحيل فصل هذه البنية المنغلقة عمّا سيقال. هذا ما يتبيّنه الوعي الشعري على نحو شفيف، ويدرك أنّه لن يكون نتاجا وبناء لتصميم شكليّ صاغه بنفسه في مرحلة ما، بل إن كل تصميم هو نتاج سيرورته وصدفه وانفعالاته وتأثير الفراشة فيه (… ). إن الشعر روح كبيرة يقلقها الشكل وتريد أن تظهر نفسها – في وعي عال- بالطريقة المحايثة لمناخ المعرفة والتطوّر والتجدّد والتوق إلى التحرّر.. أكثر من مرّة بأكثر من وجه، إذ لا يمكن اليوم في مرحلة مضطربة كهذه فصل قلق شعوب المنطقة العربية من المستقبل وقلق الفكر الحرّ من بنية العقل العربي المتأصّل عن قلق الوعي الشعري من بنية هذا العقل وبنية القصيدة التي ينتجها وينكبّ عليها وفقا لتلق جاهز يدفع بمنكبيه كل جديد إلى الخلف، ليضع يقينياته وتصوراته المطلقة فيها.

شاعر مغربي

منير الإدريسي