تقديم الكتب

اثنين, 2014-06-09 12:20

منذ عدة سنوات طلب مني أحد الأصدقاء، وكان قد جمع قصصا قصيرة ظل يكتبها سنوات، في كتاب متوسط الحجم، أن أكتب له مقدمة لتلك المجموعة، أو على الأقل، عدة أسطر مختصرة على الغلاف الأخير للكتاب، كنوع من التزكية المشروعة، أو تقديم كاتب جديد لقارئ ربما صادف وعثر على الكتاب وأراد قراءته.
لم أكن في الحقيقة مقتنعا بتلك الفكرة، خاصة وأنني كنت في ذلك الوقت، وبالرغم من أنني كتبت كثيرا في مشروعي لكني ما زلت أبحث له عن موضع وسط تجارب كثيرة ورائدة وبالتالي لا أملك تلك السطوة التي تشد قارئا إلى كتاب، وأيضا لقناعتي الشديدة أن لا جدوى من كل ذلك في زمن أصبحت فيه الكتابة مرضا وبائيا أصيب به معظم الناس، والقراءة إما غائبة تماما، وإما انتقائية، ترسخت عند عدة أسماء ولن تتركها بحثا عن أسماء جديدة، إلا إذا جاءت متوجة بجائزة من تلك الجوائز العديدة التي دخلت الكتابة العربية مؤخرا. وأصبحت أكبر صيتا من كلمة لمؤلف على غلاف ربما تكون مجاملة أكثر منها رغبة في مناصرة الإبداع.
في قراءاتي الكثيرة عبر سنوات طويلة، بعد أن نضجت وأدمنت زيارة المكتبات، وأيضا طلب الكتب غير المتوفرة، صادفت كتبا كثيرة، مكتوب على أغلفتها كلام جاذب، بتوقيع لامع، لكن حين تصفحتها لم أجد ذلك المحتوى الإبداعي الذي وصف، على عكس أخرى، صدرت وأغلفتها عارية من التقديم، وكانت تضج إبداعا وجنونا.
ليس معنى أن يكتب مبدع ناجح على غلاف كتاب ما لكاتب جديد، أنه يعطيه تأشيرة مرور لطريق القراءة، وليس معنى أن لا يكتب، أن يظل الكتاب مهجورا لا يطالعه أحد، وفي الوقت الحالي ومع تزايد طرق الاتصال، ألغيت كثير من الطرق القديمة التقليدية، التي تروج بها السلع، وحلت محلها طرق جديدة، والكتاب سلعة كما نعرف، وقد كانت كلمة الغلاف، والدراسات النقدية التي تكتب بعد صدور الكتاب، من أكثر الطرق الدعائية المعروفة.
المهم إنني كتبت لصديقي كلمة صغيرة على غلاف مجموعته وكانت مجموعة جيدة فعلا، وفيها تلاحم مع الشعبي والأسطوري، وبها قصص ليست قصيرة جدا أو طويلة جدا، ولكن مقنعة ومكتملة في رأيي. لكن مع الأسف مرت أكثر من خمس سنوات ولم أسمع أي صيت لتلك المجموعة، لم أسمع أن أحدا قرأها أو ناقدا تصدى لها، أو ناقشتها مجموعة من القراء في منتدى قرائي، وحتى صديقي الكاتب، لم يعد يكتب كما أظن، لأنني لم أسمع بإنتاج جديد له، وكأن حماسه قد فتر، أو كأن الإحباط استولى على بؤر الإبداع داخله، وأسكت فورانها.
الآن بعد سنوات طويلة ما زلت أذكر بداية اشتغالي بالكتابة، أيام دراستي فيمصر، حين حملت روايتي الأولى «كرمكول والحصانة القروية»، وهي مخطوط، ذهبت بها إلى صديقنا الراحل محمد مستجاب الذي تعرفت إليه في مقاهي وسط البلد، من ضمن معظم مبدعي تلك الفترة الجميلة، ومنهم أصدقاء ما زالوا يلونون حياتي إلى الآن. كان محمد مستجاب كاتبا كبيرا، له ثقل جبل وعمق بحر، يقرأ كل شيء، ويتحدث في كل شيء، ويتذوق الكتابة جديدها وقديمها، ويستطيع أن يدرج حتى الحجارة الصلدة، في كتابة ساخرة لا يعرفها أحد غيره، ومن منا لم يستمتع بكتابه: التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ، أو سلسلة قصصه عن آل مستجاب.
كان الكاتب العظيم، كريما معي حين وافق على قراءة مخطوطي، لكنه أعاده إلي بعد عدة أيام، ورفض أن يكتب حرفا كتقديم لكتاب أحسه جديرا بتقديم نفسه، كعمل أول قطعا تتبعه أعمال أفضل، كما أخبرني. وحين صدر الكتاب بعد ذلك من دار نشر صغيرة، بلا تزكية ولا كلمة على الغلاف من أحد، كان مستجاب أول من كتب عنه، وأدخله في مقارنة مع رواية الأشياء تتداعى، للنيجيري العظيم تشينوا تشيبي، مما أذهلني حقيقة، في زمن كانت مثل تلك الكلمات، هي العائد الوحيد الإيجابي لشقاء الكتابة. ثم كان ذلك الكرم المضاعف حين كان يشتري الكتاب، ويوزعه مجانا للناس، ترويجا له.
بعد سنوات من ذلك وفي عام 1995 كتبت رواية صغيرة اسمها «سماء بلون الياقوت» وأيضا وتحت إحساسي بأن لا أحد سيقرأها لو لم تقدم بواسطة أحد ما، ظللت أطارد كاتبا شهيرا جدا عبر الهاتف والرسائل المباشرة، راجيا منه تقديمي، فلم يفعل بالرغم من أنه قرأ الرواية، ربما بسبب انشغاله، وربما لأسباب أجهلها، وصدر الكتاب بغلاف عار من أي كلمة، ومضى ولا أعرف إن كان قد قرأه أحد أم لا، لأنني لم أسمع بدراسة كتبت عنه، أو نقاش دار حوله.
ما أردت قوله للذين أصابتهم عدوى الكتابة من الأجيال الجديدة، وتحتم عليهم أن يكتبوا طائعين أو مجبرين، إن الأمر محزن للغاية، وذلك الدرب الذي لا بد أن يطرقه أحد في كل زمان، ليظل دربا، بات الآن مهددا بالحفر والمجاري، وأيضا أمراض التوتر التي تقصر العمر، وبلا أي فائدة تجنى، حتى «الصيت» الذي كان يدفع بكثير من الهواة الأثرياء، لإنفاق آلاف الدولارات في طباعة أشعارهم أو رواياتهم، وتوزيعها مجانا على الأصدقاء، ما عاد بالإمكان تحقيقه الآن، وسط مئات الآلاف من الكتب بمختلف أنواعها وأمزجتها، وهي تبحث عن قراء يلقون إليها بنظرة.
كاتب سوداني

أمير تاج