الراحل خالد صالح: براعة في أداء الأدوار المعقدة… وقدرة على خلق الدهشة الدائمة

أحد, 2015-01-11 15:39

خالد محمود صالح الذي رحل في 25 ايلول/سبتمبر 2014، يترك مكانه شاغرا من الصعب ان يأتي احد لسد هذا الفراغ في المشهد السينمائي، صاحب مسيرة فنية حافلة بالعطاء، ممثل سينمائي وتلفزيوني واذاعي ومسرحي، تنوعت أعماله ونال شهرة كبيرة في السنوات الأخيرة، رغم انه تفرغ للتمثيل بشكل كامل منذ عام 2000 الا ان ارتباط اسمه بعمالقة من المخرجين، خصوصا في السينما جعل نجمه يقفز عاليا كنجم سينمائي عربي له مذاق خاص، في الأدوار الشريرة وكذلك الطيبة، يمكننا أن نتوقف معه في عدة افلام أهمها فيلم «عمارة يعقوبيان» فيلم «هي فوضى»، فيلم «الريس حرب» وفيلم «الحرامي والعبيط».
خلال مسيرته الفنية وبعد تفرغه بشكل كامل للتمثيل، ركب خالد صالح الصعب من خلال أداء شخصيات صعبة مركبة ومعقدة للغاية، شاهدنا ذلك في فيلم «عمارة يعقوبيان» خلال شخصية رجل السلطة أو ممثل السلطة الرجل المحاط بهيبة، كلماته قصيرة، لكنها معبرة وموحية، فالحوار كان يحوي تلميحات وليس تصريحات، رغم وجود نجوم قوية في هذا الفيلم، أمثال عادل إمام ونور الشريف ويسرا وغيرهم، إلا أن خالد صالح لفت انتباهنا إلى هذه الشخصية كونه منحها طابعا خاصا حيويا وديناميكيا، هنا فعلا نجد براعة في التمثيل فالممثل القوي يقدر أن يثبت نفسه ليس بأخذ مساحة قوية في الفيلم. كانت المشاهد بسيطة وسريعة وقليلة رغم ذلك أثبت خالد صالح وجود هذه الشخصية.
مع المخرج العملاق يوسف شاهين في فيلم «هي فوضى» قدم خالد صالح شخصية مركبة شخصية (أمين الشرطة) وجه النظام البوليسي فهو الأداة الفاعلة التي تحرك الكثير من الخيوط، رغم أن امين الشرطة ليس بالرتبة الكبيرة، إلا أنه هنا له سلطات واسعة وأساليب متعددة، وهو مطلوب في كافة الأوقات والظروف لقمع المظاهرات وتعذيب المساجين، بل إخفائهم عن الوجود في سراديب سرية، وكذلك تزوير الانتخابات فالرجل يملك كل أساليب ووسائل المكر والقسوة، يقع في حب فتاة جميلة جارته يحاول اغرائها فترفض يمارس وسائل التهديد والوعيد تكون معركة صعبة، يمارس كل الوسائل الحقيرة ثم يعمل على اختطافها هو الرجل الشهواني وكذلك الجاهل بروعة الفن والتاريخ.
هنا نكتشف الروعة في التمثيل خالد صالح لا يكتفي بتجسيد الشخصية واعطائها حقها بكافة الأبعاد النفسية والجسدية، يذهب أبعد من ذلك بمنحها روحا حية قادرة على أن تجعلنا نتعايش معها، نحبها أو نكرهها ونكتشف من خلالها البعد الفكري والفلسفي والدرامي للشخصية، وهو لا يحتاج أن يأخذ مساحة كبيرة جدا ويستولي على كافة المشاهد كي ينجح في عكس كل هذا، مهما تكن المساحة المتاحة له، كل مشهد نكتشف ونغوص أكثر في تفاصيل نفسية وفكرية، كون المخرج السينمائي الكبير يوسف شاهين لا يريد أن يسرد مجرد قصة في هذا الفيلم، كان يريد عكس صورة واقع معاش بكل قسوته وجبروته وجهله وبشاعته، كان يريد تعرية نظام حكم كامل، وليس مجرد حدث يجري هنا وهناك، وقد اعتمد بشكل كبير على شخصية أمين الشرطة كمحرك أساسي ووجه يمتلك اقنعة عديدة متلونة، حاول الغوص في عمق هذا النظام بكشف أدواته الحقيقية بكشف الوجه القبيح والروح الخبيثة، نرى أن خالد صالح بذل جهدا كبيرا ليحقق رؤية المخرج يوسف شاهين، وهذا الاختيار لخالد صالح يمكننا اعتباره وساما رفيعا لممثل بارع قادر على أن ينتزع إعجابنا بالأداء كون يوسف شاهين لا يجامل وهذا الاختيار هو عن قناعة منه بقدرات هذا الممثل.
في فيلم «الريس حرب» كان خالد صالح متمكنا أكثر، فخلق للشخصية أبعادا أسطورية وفلسفية، ربما لم تكن في حسبان المخرج خالد يوسف وكانت سببا قويا في نجاح الفيلم، فهذه الشخصية الجذابة المخيفة المسيطرة التي تدير كل شيء حولها وتخلق من شاب عادي شخصا آخر، هنا الكازينو هذا العالم الخاص ربما بالناس التافهة والتي تمتلك المال وتأتي لبعثرته، وهناك من يأتي للكسب أو اغراض أخرى، هذا الرجل الذي يدير هذا الكازينو يجمع جميع الخيوط بيده ليكون هو الواهب والمعاقب والقادر على منح السعادة وجلب التعاسة لهذا أو ذاك، هذه المواصفات التي تجعله نصف (إله) ربما كما قلت المخرج لم يكن يتوقع أن يقفز خالد صالح بالفيلم إلى فضاء فلسفي اسطوري وخرافي تجعله من الافلام الأكثر حرفية لخالد يوسف، الذي منحه الحظ هذا الممثل الرائع، أعني خالد صالح، وأعتقد أنه لو تم اختيار ممثل آخر كان الأمر سيختلف كثيرا، وربما لم يكن ليحقق النجاح الفني والشهرة الكبيرة للمخرج خالد يوسف، الذي أصبح يحرص على استغلال خالد صالح في أغلب بقية أفلامه كون هذا الممثل منح المخرج الكثير من النجاح والتألق ومنح أفلامه انتشارا وجمهورا لم يكن يحلم بها خالد يوسف وستثبت الأيام القريبة بالمستقبل، سنرى إن كان خالد يوسف له عمل جديد بعد ذهاب خالد صالح. من الصعب أن يجد ممثلا بالإمكانيات نفسها، كان الحظ في صف خالد يوسف بعمله مع مخرج ومدرسة سينمائية لها شهرة عالمية، أعني يوسف شاهين، وكذلك وجود خالد صالح كممثل.
أود ختم هذه المقالة مع فيلم «الحرامي والعبيط»، علما بأن هذه المقالة مدخل لدراسة معمقة أعمل على إنجازها لنشرها مستقبلا، كون خالد صالح مدرسة فنية رائعة من الواجب الوقوف معها والاستفادة منها، في هذا الفيلم يقوم خالد صالح بدور العبيط الذي يستغله الحرامي، معتبرا إياه مخزنا مفتوحا ومباحا، فيأخذ عينه ثم يبيع كليته ثم يدفعه الطمع لبيعه كاملا، هنا خالد صالح مع خالد الصاوي هذا الثنائي منح الفيلم قوة كبيرة.
في حديث تلفزيوني مع لميس حديدي اعترف خالد صالح (بأنه تردد كثيرا وخاف من الشخصية كونها شخصية هلامية مفتوحة الأفق)، وربما أن السيناريو لم يرسم بشكل تفصيلي دقيق ملامح الشخصية ومسارها الدرامي، من منح هذه الشخصية السحر والروعة كان خالد صالح وحده بجهد ذاتي، كونه يمتلك العناصر الإبداعية كممثل يخلق الدهشة والحياة الدائمة لتظل هذه الشخصية محفورة بذاكرتنا. وكما أفصح الممثل عن أن كل خطوة كانت خطيرة لا حوار يساعد، المكياج والزي والمكان الذي تتحرك فيه الشخصية لم يكن كافيا لولا عبقرية هذا الممثل. 
في النهاية يجب التنويه بميزة أخرى مهمة لخالد صالح كونه لا يشترط أن تكون له مساحة كبرى، ويتعامل مع شركائه في الفيلم بحيوية، بل ربما يمنحهم الوهج والتألق ولا يغار، ممثل مقتدر لا تهمه البطولة المطلقة، مثلا نرى في أفلام عادل إمام الأخيرة يشترط وهو من يختار بقية كادر التمثيل ويتم رسم السيناريو بدقة ليخدم دوره فقط ثم يقف وقد يطلب تعديلات خلال التصوير وعند المونتاج، ليضمن لنفسه المساحة الأكبر والبطولة المطلقة في ضوء ذلك من الصعب على بقية المشاركين إثبات حضورهم، كونه ربما يحذف أي لقطة أو مشهد يظنها ستمس بنجوميته أو سترفع ممثلا غيره، لكن خالد صالح لا يضع شروطا من هذا النوع ولا يتابع تفاصيل كهذه، لإثبات حضوره مهما كان دوره صغيرا أو كبيرا يسعى لبعث الحياة روحا وجسدا في الشخصية التي يؤديها، كما يمنح شركاءه فرصة الظهور وإثبات الذات، بل يدعم حضورهم بقوة كونه رجلا يتنفس ويشع إبداعا وإنسانية.

سينمائي يمني مقيم في فرنسا

القدس