أمير تاج السر يكتب : تساؤلات في العنف

أحد, 2015-01-11 23:25

أرسل لي أحد القراء المخلصين من السعودية، رسالة، يبدو أنها جاءت كرد فعل سريع، على مجزرة باريس الأخيرة، التي حدثت الأسبوع الماضي، وقتل فيها صحافيون، ورسامو كاريكاتير، نشروا رسومات تتهكم بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وكانوا دأبوا على نشر مثل تلك الرسوم التي تسخر من كل الأفكار والعقائد على حد سواء.
يقول القارئ في رسالته: لماذا العنف كوسيلة للدفاع عن العقيدة، وليس الحوار الثري المتكامل الذي ربما يقنع من يحاورك بأفكارك، ويجبره على الاعتذار إذا كان قد أساء؟
لماذا لا نحمل أدوات الإقناع المسالمة بدلا من حمل المسدس والرشاش؟ وما هو دور الثقافة التي تنتمون إلى قافلتها، في مثل هذه المحن الكبيرة، التي تضر بديننا، وتثبت ما يريد الغرب أن يثبته دائما تجاه الإسلام والمسلمين، ولا زلنا حتى الآن نختنق بثقل تداعيات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول البعيد ذلك، حين فجر مقر التجارة العالمية، وظهر إلى الدنيا مصطلح اسمه: الحرب على الإرهاب، وكانت في الحقيقة، حربا خصصت لنا بالتحديد؟
رسالة القارئ السعودي تبدو واعية كثيرا، وفيها تلك التساؤلات التي لا ننفك نطرحها جميعا على أنفسنا، وفي الغالب لا نعثر على إجابة شافية. نعم هناك تجاوزات من الغرب تجاه العرب والمسلمين بحجة حرية الرأي التي تتيح لمنتج أبله، أو مخرج سينمائي بلا مؤهلات أن ينتج شريطا سينمائيا بلا معنى يسيء بصورة سافرة إلى أعظم الشخصيات في التاريخ، ويتوقع أن يسكت الناس؟ نعم، تلك التجاوزات التي تظهر العربي دائما مغبرا، متربا، شهوانيا، بلا عقل ولا إحساس، متبوعا بحريمه وخرافه، بينما الغربي يبدو سيدا في كل حالاته، حتى وهو أسير لدى هذا العربي، في خيمة منصوبة في الصحراء، ويبدو أن ذلك التنميط الذي حدث منذ عرف الغرب كيف يغزو الشرق ويستعمره، لم يتغير إلى الآن، رغم التغييرات الهائلة التي طالت كل ثوابت الدنيا، ومنها انهيار أنظمة ديكتاتورية، مرعبة، كانت تظن نفسها لن تنهار أبدا، وارتفاع أصوات لضعفاء ما كانوا يظنون أن أصواتهم قد ترتفع ذات يوم.
وفي رواية «السماء الواقية»، مثلا للأمريكي بول بولز التي تتحدث عن الصحراء الغربية، ورغم أن بولز من عشاق بلاد العرب وعاش في طنجة فيالمغرب، ومات فيها، لا تختلف صورة العربي كثيرا، وإن كانت محسنة بعض الشيء بحكم المحبة، وغير بولز يوجد كتاب غربيون كثيرون فتنوا بالشرق واستوحوا منه القصص، لكنهم في النهاية، وحين يضعون شخصيات عربية أو مسلمة، لا يضعونها كما يجب أن تكون، لا يتحدثون عن الكرم، ولا عن الشهامة في وقت الشدة، ولا عن البيوت التي فتحت للغرباء حبا ومودة، وإنما يذكرون الطائش وغير المألوف في السلوك، وبعض الحماقات التي يمكن أن تصدر من أي شخص في أي مجتمع، عربي مسلما كان أو غربيا.
أذكر أن الشاعر السوداني الراحل النور عثمان أبكر، كان ترجم كتابا لعالم نباتات ألماني ، زار السودان في القرن السابع عشر أو الثامن عشر، لا أذكر اسمه بالتحديد، ترجمه عن الألمانية، ترجمة رائعة، مليئة بالشعر والحماس، واللغة الرائعة، لكنه حين انتهى، انتبه إلى تلك العيوب المهولة التي خصصها عالم النباتات كهجو مبالغ فيه لبلد فتحت له بابها الواسع، آوته بيوتها الفقيرة البسيطة، وأكرمه أهلها، بما يملكون من موائد ليست زاخرة بما لذ وطاب ولكنها عامرة بالمحبة، كانت ثمة استهانات، وأوصاف مزرية وصفت بها النساء، وكانت ثمة إساءات لسمعة بلادنا أكثر من تمجيدها، وكانت النتيجة أن النور لم ينشر ذلك الكتاب وهو حي وأظنه نشر بعد وفاته.
بالمقابل يوجد في الغرب بالطبع من يقدر عالمنا العربي والإسلامي، ويوجد من يحتفي بثقافتنا، ويروج لها، ويوجد من يبحث عن المداخل المسالمة، والمخضرة الوارفة، ليدخل منها، ومن يمد يده مصافحا في أي وقت، لكن ذلك ليس كل شيء. فالنظرة العامة هي النظرة العامة، تلك التي قتلت فتاة في حديقة عامة، لأنها كانت تغطي رأسها، فقط لا غير.
سؤال الثقافة وظاهرة العنف، جدير بالمناقشة أيضا، وإن كانت مناقشة محسومة نتائجها سلفا، فالثقافة ومنذ زمن طويل، لم تعد اليد اليمنى للتنوير، ولا صاحبة الكلمة الأعلى في قوانين الحياة، فقد أخلى المثقفون مقاعدهم، أو أخليوا منها بالقوة، ثمة مثقفون انخرطوا في أجندات الأنظمة في بلادهم وروجوا لطهرها وعفافها، مثقفون ضاعت أعمارهم في السجون وخرجوا صامتين. ومثقفون لا تتعدى خطوات تنويرهم بيوتهم والمقاهي التي يجلسون عليها، حتى أدوات الثقافة الحية من تلفزيون وسينما وكتاب، لم تعد مجبرة على تنوير أحد، أو مده بالمعلومة المناسبة ليستخدمها، وكانت في ما مضى، تستخدم تلك الأدوات بفعالية كبيرة، وتطارد الناس حتى في أماكنهم البعيدة، لتمدهم بالتوعية، وما زلت أذكر ما كان يسمى السينما المتجولة، التي شاهدتها في قريتنا في شمال السودان، حين كنا نذهب إليها في الصيف، كانت تلك السينما المحمولة على عربة تابعة للدولة، وتعمل بالبطاريات في ريف بلا كهرباء في ذلك الوقت، تبث أفلاما توعوية خاصة بالديمقراطية والانتخابات، والزراعة والرعي، وأيضا أفلاما تشرح كيفية الوضوء الصحيح، والصلاة الصحيحة، وماذا يجب على الحاج أن يفعله منذ ينوي أداء فريضة الحج حتى يعود إلى بلاده.
ما الحل إذن، لإعادة أداة الحوار المفقودة، إلى زمن العنف هذا؟ كيف يمكننا أن نجادل بسلام، ونقنع بسلام، ونحمل تنويرا بعيدا عن العنف الطاغي، الذي لا يفرق بين عدو وصديق، ثم كيف نغير صورة العربي المسلم، لدى الغرب؟ تلك الصورة النمطية القاحلة التي لم تتعدل كثيرا منذ أن اخترعت.

كاتب سوداني

أمير تاج السر