الجمالية الثقافية / سعيد يقطين

أربعاء, 2015-01-14 13:16

علمتني تجربتي، أستاذا ومحكما لبعض المجلات، أن الرداءة ليست سيئة في ذاتها، لسمات تجعلها كذلك، ولكن لأنها أيضا متعبة للجسد والروح. فأوراق الامتحان التي تصححها نوعان: نوع يمكن أن تمر عليه مرور الكرام، فتجد نفسك مرتاحا مطمئن البال. الخط واضح ومقروء. الورقة نقية وعناصرها مرتبة، وفقراتها منتظمة ومتسلسلة. وقد يكتب الطالب عدة صفحات فتجد نفسك تنتقل بين فقراتها بانسيابية ومرونة، وتبدأ تتأكد لك العلامة التي ستمنحها للورقة منذ البداية. وكلما تقدمت في القراءة أحسست بأن جهدك لم يضع، وأن هناك تجاوبا مع ما تقول، فتشعر بأنك أديت رسالتك على أتم وجه. وبعد دقائق معدودات تجد نفسك تعطي علامة وأنت مرتاح البال، سعيدا بما اخترته في مشوار حياتك.
أما النوع الثاني من الأوراق، فيجعلك تكفر بالإنسان، وبالمهنة التي اخترتها عن وعي، بل تدفعك إلى الشعور بأنك لو اخترت أن تكون بائعا للنعناع في السويقة لكان ذلك أفضل وأحسن. تجد نفسك أمام ورقة مكتوبة بألوان مختلفة، وليس مرد ذلك إلى لجوء صاحبها إلى تمييز العناوين أو تحديد المصطلحات، أو ما شابه. فهذا مما لا يمكن أن يدور بخلد صاحبها؟ إنه كلما جف له قلم، لجأ إلى آخر، وإن كان من لون مختلف. وقبل استعمال القلم الآخر، تجد الكلمتين الأخيرتين غير واضحتين، ولكن فقط الأثر الفارغ الذي أحدثه القلم المنتهية صلاحيته. وتجده يعيد الكلمتين باللون الجديد، فلا تكون عنده حتى القدرة على إخفاء تلك الآثار، بل ينحرف عنها كتلميذ يتمرن على الكتابة. 
إن العذاب التي تسببه مثل هذه الأوراق، والوقت الذي تضيعه في فك رموزها، أكثر من الزمن الذي تقضيه في قراءة بحث مقدم بخط جميل وواضح. ولقد وجدت نفسي أعيش التجربة نفسها مع المقالات المحكمة. فالرديئة منها تضيع معها الصباحات والأمسيات لتخلص إلى رفضها نهائيا بعد أن تكون قد سردت عشرات الحجج حول عدم صلاحيتها شكلا ومضمونا، وبعد أن تكون قد ملأت لوائح بما تتضمنه من أخطاء معرفية ولغوية. 
الرداءة وليدة القبح في كل شيء.. وهي دليل على عدم تحمل المسؤولية والتهور وعدم تقدير الآخر، إنها تنبني على الاستهانة بالأمور وانعدام الجدية في الإنجاز. كما أنها تتأسس على ما نجده في ثقافتنا الشعبية من أمثال دالة، مثل: «كوَّرْ واعطِ للأعور»، أو «ما تهيئه المخموجة يأكله أبناؤها»، ففعل «التكوير» في المثل الأول يعني دس الخبيث وسط الطيب، لأن الأعور لا يرى ما هو مخبوء في الوسط. أما المرأة المخموجة، فهي غير الحاذقة، ومن كثرة ما عودت أبناءها على طبخها الرديء لا يجدون سواه لذيذا. 
إن هذين المثلين يعبران بدقة عن رفض الرداءة والقبح وتعويد الناس عليهما، لذلك فـ»التكوار» و»التخماج» لا يمكن أن يقبلهما إلا الأعور والمتعود على الرداءة. وفي غياب التربية الجمالية المؤسسة على الحرص على الحذق والمهارة، في كل شيء، تسود «الكِوارة» و»الخُماجة»، وحين نتعود عليهما نصبح غير قادرين على تحمل ما عداهما. 
يبدأ التعود على الرداءة والقبح منذ الصغر، في البيت والمدرسة والشارع. فإذا الأجيال تشب عليهما، وتمارسهما باعتبارهما القاعدة؛ أما الحذق والجمال فهما الاستثناء. أذكر أننا عندما كنا نتعلم الخط، في الستينيات، بالعربية والفرنسية، نقضي الساعات الطوال للتدرب عليه، بقصد تجويده وتوضيحه، والعصا تواكب تدربنا. فكان الخط الذي نكتب به واضحا وجميلا وموحدا. عندما أصحح الآن أوراق اختبار الطلبة أجد كلا منهم يكتب بخط مختلف عن الآخر، وكأنهم تعلموا في مدارس من مجرات مختلفة، ولا ورقة جميلة. وحين أصادف نقيضها، أعرف أن صاحبها ينتمي إلى غير هذه الأجيال الأخيرة، بل إنه حتى طريقة مسك القلم تجدها مختلفة تماما. 
ما أقوله عن الطالب، ينسحب على الحرفي في أي حرفة، فالسباك والكهربائي والبناء، هدف كل واحد منهم أن ينهي عمله بأي طريقة، بلا حرفية ولا عشق لما يقوم به. ومثل ذلك نجده مع الصحافي والسياسي والفكاهي، كل يشتغل بطريقة التكوير والتخميج لأنه يتوهم أنه لا يخاطب سوى العور وأبناء غير الحاذقة؟ فإذا الرداءة والقبح يسودان كل ممارساتنا وأفعالنا وأقوالنا. ومع ذلك نجدنا نتساءل دائما عن أسباب تخلفنا، ونكوصنا، وتراجعنا. قيل له: إن أباك وقع من على الحمار في السوق؟ فأجابهم: لقد خرج من الخيمة في ركبة غير سوية؟
ركبتنا «الجميلة» لم نعد نتدرب عليها، ونتربى عليها منذ الصغر، فإذا بنا نكبر مائلين أبدا. ويبدو ذلك بجلاء في تعاملنا مع الخطابات التي نفترض أنها تمثل الجمال، باعتباره أهم خاصية يميزها: أقصد الخطاب الأدبي والفني. فإذا بنا نتوهم جماليتها فقط في الـ»شكل» الذي لا نرى له مضمونا. ونعتبر الاهتمام بالتقنيات والجمالية في النص الأدبي والفني تحريفا للأدب عن مجاله الحقيقي، أي: الأفكار والمضامين والأنساق المضمرة، فإذا بنا نغرق في رداءة الإيديولوجيا وقبحها، إبداعا وتأويلا. ما لا نريد معرفته هو أن: الجمال جوهر الثقافة، وأن الثقافة بلا جمال ليست سوى قبح ورداءة.

ناقد مغربي

سعيد يقطين