السيد نجم يكتب : متى يواكب الإبداع الصراع والحرب

سبت, 2015-01-17 13:13

في كتابه «خريدة القصر وجريدة العصر»، جمع العماد الأصفهاني الأشعار التي مجدت صلاح الدين الأيوبي وانتصاراته، ثم سجل في مقدمة كتابه أن الشعر لم يواكب الحدث، وها المقولة نفسها التي ترددت حول الذاكرة الثقافية/ الإبداعية لأحداثنا الكبرى، كما حرب أكتوبر/تشرين الأول 73. فأصبح السؤال: كيف يواكب الإبداع الأحداث الحربية؟
في البدء.. العمل الإبداعي يقع في دائرة السؤال القديم/الجديد: هل هو انعكاس مباشر للحياة الواقعية؟ إذن بماذا يتميز عن لغة الحياة اليومية التقريرية؟ وإن كان مستقلا عن الواقع.. بما سينتهي إليه، هل إلى عالم مثالي منعزل؟ ليصبح السؤال: كيف يمكن للعمل الإبداعي أن يظل مستقلا ومتصلا بالواقع، من دون الوقوع في المحاكاة أو الشطط؟
نظرة تاريخية.. المتابع للمنتج الإبداعي العربي سوف يتوقف أمام عدد من الملاحظات، في مجملها حول العلاقة بالتجربة الحربية.
ففي النثر العربي قبل الإسلام، اقتصر على ما يمكن أن نطلق عليه الفن الحكائي (القصصي تجاوزًا)، والخطب في الأسواق، ونوادر السمر في المجالس، لم يحرص أحدهم على تسجيلها (ربما بسبب نقص وسائل التسجيل، في ما عدا الذاكرة البشرية التي وجدت في الإيقاع والموسيقى الشعرية، عونا للحفظ والاحتفاظ بالمنتج الشعري).
مع ذلك للعرب حكاياتهم وقصصهم وأساطيرهم. الملاحظ أن كل شعوب العالم لها هذان الضربان من القص.. المروي والمكتوب. للهند «المهابهاراتا» وللفرس «الشاهنامة» ولليونان «الإلياذة».. وللعرب «أيامهم» و»دون كيشوت» في إسبانيا و»الأيام العشرة» لإيطاليا.. 
إجمالا يمكن القول بأن الاختلاف بين الشعوب في موضوع القص، أن اهتمت أغلب الشعوب بأسلوب الحكي وجماله أكثر كثيرًا عما هو الحال في القصص العربي الذي بدا أسلوبه مهلهلا، وتأليفه ركيكا.. (مصطفى عبد الشافي/ التراث القصصي عند العرب).
أغلب الظن انفصل القص عن التاريخ، وبدا مستقلا بعد نزول القرآن.. فكانت قصص الأولين والأمم الماضية، وتحدث عن الأنبياء. وهو ما أفرز في ما بعد القصص الديني. كما اعتاد الخلفاء على الاستماع إلى القصاصين في مجالسهم، فكانت قصص أخرى غير التي يعرفها العامة.. 
ارتبطت القصة العربية القصيرة منذ نشأتها بالأساطير القديمة التي روت أحلام الإنسان البدائي وعلاقته بالمجتمع والطبيعة، وما وراء الطبيعة. منها قصة «فتنة الزهرة» للملكين هاروت وماروت، ومنها عن القمر حين أراد أن يتزوج البدران من الثريا.. ومنها عن أصنامهم: هبل رب الأرباب، واللات والعزى ومناة.. ومنها حديثهم عن الكعبة والحجر الأسود والصفا والمروة، وقصة «عام الفيل»، وقصص «الغيلان وشياطين الشعر»، ثم قصصهم عن زمن العرب البائدة كإرم ذات العماد وعاد وثمود، وحديث العماليق كعوج بن عنق.. وغيرها، مما يشير إلى غلبة قصص البطولة أو حول الصراع/ الحرب. 
أما الشعر فقد ارتبط الكثير منه بأحداثهم المهمة، مثل قصيدة «مهلهلية» في يوم البسوس.. والمعلقات (وقد غلب عليها القصائد القصصية).
إن أربعًا من المعلقات السبع، تتناول «الحرب» وهي معلقات: عنترة بن شداد، زهير بن أبي سلمى، عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة. والناقد القديم محمد بن سلام الجمحي هو صاحب نظرية نضوج الشعر العربي قبل الإسلام بالحرب. كما أن ابن سلام في كتابه «طبقات فحول الشعراء» أرجع قلة الشعر عند أهل قريش والطائف وعمان إلى قلة الحروب.
ترى ريتا عوض في كتابها «بنية القصيدة الجاهلية» أن مقولة ابن سلام لها وجاهتها.. أما ربط الشعر بالحرب فيحتاج إلى مناقشة لعدة أسباب، منها: أن جانبا كبيرًا من الشعر الجاهلي لم يلتفت إلى الحرب.. كما أن الشاعر العربي لم يواكب الفتوحات الإسلامية (التي هي حروب).. باستثناء القليل. والمثال عمرو بن أبي ربيعة الذي عرف بالغزل بينما مات في معركة!
هناك من تناول الحرب من زاوية أخرى.. رفض الحرب، جميل بن معمر شاعر الغزل:

يقولون جاهد يا جميل بغزوة 
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد

يمكن الجزم بأن اهتمام العرب بالأيام تم في ما بعد، كما فعل ابن الأثير (جمع حوالي السبعين يومًا)، والميداني (جمع مئة وثلاثين يومًا)، والأصفهاني وغيرهم. المهم توصلنا لبعض قصص العرب في الجاهلية.. منها قصة امرئ القيس يوم دارة جلجل، وقصة عمرو بن كلثوم مع الملك عمرو بن هند، وغيره.
كانت القصة في صدر الإسلام وما بعده انعكاسًا للقصص القرآني، ثم الفتح الإسلامي أكسب النثر العربي أفقا جديدة. ومن أشهر القصاصين الصحابي تميم بن أوس. وقد ذكر المسعودي أن الخليفة معاوية بن أبى سفيان كان يحرص على سماع القصاصين. ولا يمكن إغفال القصص الشعري. 
اتسعت الدولة الإسلامية أيام العباسيين، فكانت «ألف ليلة و ليلة»، «كليلة و دمنة»، وإن كانت أصولها من غير بلاد العرب إلا أنها تحولت للتعبير عن البيئة العربية. ولا يمكن إغفال القص في فن المقامات، بحيث تناولت موضوعات أقرب إلى القص الحديث المتنوع.
مع ذلك هناك ثلاث قصص طويلة لا يمكن إغفالها: «رسالة الغفران»، «رسالة التوابع والزوابع»، «رسالة حي بن يقظان».. الأولى لأبي العلاء المعري، وتعتبر قمة تطور الأدب القصصي عند العرب وهو ما أكدته بنت الشاطئ في دراستها المهمة حولها. ورسالة «التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي، مما يشير إلى أن الفن القصصي لم يكن في الشرق العربي فقط. أما قصة حي بن يقظان لابن طفيل، فتتميز بأسلوبها الجزل، بالإضافة إلى ما تتضمنه من آراء وأفكار. 
وكتبت القصيدة العربية رفيعة المستوى (في موضوع الحرب)على يد اثنين من فحول الشعر العربي: أبو تمام (المتوفى 231 هجرية)، ففي فتح المعتصم «عمورية» كان مولد أول قصيدة حربية ناضجة بعد الإسلام.. في بائية أبي تمام يقول:
«فتح عمورية تعإلى أن يحيط به .. نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له .. وتبرز الأرض في أثوابها القشب»
أما أبو الطيب المتنبي فيصفه البعض بأنه شاعر الحرب الأكبر، واللافت أنه جاء والأمة العربية/ الإسلامية في حالة من التحلل الحضاري أو تكاد. الطريف أن الشاعر خلد قائدًا لم تتفق معه الوثائق التاريخية وهو سيف الدولة الحمداني! وقال فيه:
«ولست مليكا هازما لنظيره .. ولكنك التوحيد للشرك هازما»
فالانتصار ليس بين ملكين، بل هو انتصار الدين والتوحيد على الشرك. 
يبرز السؤال، هل هناك انفصال بين النضج الثقافي ومن ثم الإبداعي، والنضج الاقتصادي والسياسي؟ هل يمكن أن تكون الأوضاع في حالة انحلال أو تكاد، ومع ذلك تنمو الثقافة و(الإبداع) تحديدًا.
نقول بما قال به البعض، إن الانحلال الاجتماعي والاقتصادي عند العرب قبل الإسلام، لم يمنع النضج الثقافي.. في ما يرى البعض الآخر أن أجمل وأعظم منجز شعري عن «الحرب» جاء على الحالتين: التقدم الحضاري، والانحلال الحضاري.

كاتب مصري

السيد نجم