مليكة مستظرف: ملاك المهمشين… أو كتابة الواقع

اثنين, 2015-01-26 16:00

إلى لطيفة باقا- إنسانة ومبدعة
كم أهاب الرحيل باكرا.. دونما أقلّ أثر..
قليلون هم أولائك المبدعون الذين أُخذوا عنا، في غفلة رحلة بتذكرة واحدة: ذهاب دونما إياب. تاركين بصمات أناملهم/ أقلامهم على صفائح تاريخنا الأدبي والفني والجمالي.. قليلون حدّ استطاعتي ذكر أسمائهم واحد واحدا، وعدّهم على أطراف الأصابع.. «مليكة مستظرف»، إحداهم، ملاك محلّق في سماء/ فضاء السرد والحكي.. رحلت بغتة وبرهة في سن الزهور (28 سنة)، تاركة خلفها كلمات وقصصا من الآلام.. كتبت عبر حبر أحمرٍ للمعاناة..
مليكة مستظرف ولطيفة باقا، اثنتان لا أكثر.. كسّرتا مفهوم الأدب الاحتكاري الذكوري، الرائي، عبر عين واحدة، لحقل الإبداعي بكونه لا يقتصر إلا على جنس واحد..
مليكة مستظرف قاصة.. ولا شيء غير ذلك..
قاصة ارتكبت حماقة الإبداعي الروائي، ولاجت كهوفه وغاباته الوقائعية لا الفنتازية.. عبر الجسد والروح.. لتبدع فيه.. أي نعم الرواية حماقة.. إنك لتصير مجنونا وأنت ساكبٌ حبر اللغة والتصوير.. خالقا شخصيات تلقي بها في دائرة الأحداث.. التي تعَدّد عقداتها كما شئت، لتحلّها عبر رؤى قليلة الحصول إلا في المِخْيال الإبداعي..
الحكي عند مليكة مستظرف.. نابع من الداخل.. من الذات الداخلية.. صوت الـ»أنا» و»الآخر».. إنه تجاوز للذات المُثلى.. الكابسة للـ»هو». للرغبة نحو الحرية والتحرر من قيود المجتمع.
كتابة المعاناة.. ومعاناة الكتابة:
إنني وأنا أختار الكتابة عن مليكة مستظرف وحول نصوصها القصصية، أصاب بقشعريرة الكتابة بالسكين.. واستشعر حرارة المتعة من أقصى الرأس وأدنى النخاع الشوكي.. حرارة لاهبة.. حارقة.. دافعة بقوة إلى الولوج لأغاويٍ لم تطأها أقلام النقاد، لتنصف هذه التجربة.. التي اختارت الكتابة بالقلم الألم وحبر المعاناة.. كل كلامنا هذا يتلخص في الإهداء الذي بدأت به نصها الأخير «موت»، كتبت: «إلى كل هذا الدم الطاهر المسكوب».. إنه لإهداء عنيف.. يختزل في سطر كل المعاناة التي عانتها جسدا وروحا وقلما.. تقول عن صعوبة نشرها لروايتها العميقة والركيزة في الاشتغال والبديعة السرد: «رفض صاحب مطبعة تافه، ولا علاقة له بالكتابة أن يطبع روايتي «جراح الروح والجسد» بدعوى إنها تخدش الحياء، ليقدّم نفسه كناقد ويصدر أحكاما جاهزة ملقّنة بعناية أذكر يومها أنني انهرت.. وانخرطت في نوبة بكاء عنيفة».
الأقصوصة: كتابة الواقع:
أي واقع؟ إنه واقع مجتمعنا المشتت.. تُطابقه الكتابة، وتُدْخِله دوامة ومتاهة جمالية فن الحكي، وسراديب السرد.. غير أنها لا تذهب، أبدا، عنه ذلك الشتات.. بل تعيد صياغته وتصوير داخل قالب من القص.. غريب أليس كذلك؟
غير أن هذا ليس غريبا عن مستظرف، فالكتابة لديها: «تصوير إبداعي» مخيالي ونابع من داخل الذات «الكاتبة/ القاصة/ الحاكية».. عبر نصوص «كاسحة»، شبيهة بقهوة الصباح.. (لا يسعفني إلا هذا التشبيه)، تصوير إبداعي للمعاناة وللألم.. هذا باديّ الوضوح في مجموعتها القصصية (والوحيدة): «ترونت سيس» (36). نقرأ في عدة مواضع من القصص العشر المكونة لهذه المجموعة، تلك الصرخة المعبر عنها بحنكة السرد والحكي، نادري الوقوع، تعبيرا عن الألم.. ألم شبيه لدرجة التطابق «بألم» العربي باطما في سيرته الذاتية، الحاملة لهذا المصطلح، سيرته التي خاطها بيديه، هناك ممددا على السرير، في ذلك المستشفى العسكري، سيرته التي اختزلها اختزالا إبداعيا.. عبر لغة مبسطة، زجلية أكثر منها فصحى. لا تستسقي عضلاتها من النائمات في المعاجم.. ولا تحاول مصارعة المجاز.. الألم وكتابة بالمرض والمعاناة واللغة الخشنة والعامية والمبسطة.. أشياء مشتركة بين مستظرف وباطما وأيضا مع محمد شكري.. غير أن هذا الأخير وإن كان يشترك معهما «كتابة الواقع»، فهو لم يجعل، بتاتا، من الألم طريقة لكتابة وتصوير الواقع الذي عاشه.. إنه أي نعم يكتب عن المعاناة، لكنه يكتب موظفا المخيال أكثر. والكتابة عنده حصاد لما تراكم لدى الذات الكاتبة من تجارب حياتية من التصاق باليومي المعيش. مليكة مستظرف جعلت من معاناتها وقلمها لصيقا بالهامش، وصوتا له، عكس صاحب «الخبز الحافي»، الذي يقول عن طبقته التي يكتب لها وعنها: «أنا عندي قضية وطبقة، أو قل طبقة بدون طبيعة، لأنه لتكون طبقة لا بد لها من مهنة أو عمل تؤطر الدفاع عنه نقابة أو حزب… ليس لطبقتي هوية، فهي سائبة». هي طبقة حرة منفتحة لا محدّدة، تلك التي يكتب عنها ولها صاحب «الخيمة».. عكس قاصتنا هنا، التي اختارت الهامش.. ولا شيء غيره لتدافع عنه..
مليكة أو لطيفة:
اشتراك مع هذا في المعاناة.. والجرأة مع الآخر.. اختلاف في المخيال مع الثاني واختلاف في الحدّة مع الأول.. لكن أي شيء مشترك بين مستظرف (صاحبة الترونت سيس) ولطيفة باقا (صاحبة الغرفة فيرجينيا وولف)؟
إنه اشتراك هام وركيز ومؤسس.. عبره لا نكترث ولا نأبه للاختلاف.. فلا حديث في هذه الأسطر إلا عن الضوء المشترك.. بين أيقونتي القصة المغاربية.. وعطريها الثمينين.. إنه تأسيس من خلال «النص المناضل» للكتابة، النص اللامؤمن بالتفرقة العرجاء، الخاوية والجوفاء. إنها الكتابة اللاتجنيسية، الكتابة بالذات المبدعة، لا الذات البيولوجية، بالذات الإنسانية الخلاقة، الذات المجددة، الذات الرائية للمنجز لا الذات الخاطة له.. كتابة عندهما ناقلة للواقع بأحداثه ومتغيراته وشخوصه، إلى الصور القصصية. صور مواجهة للأنا العليا المثالية، «أنا» المجتمعي والسياسي والتابوهات.. في محاولة صلدة لتجاوزها وكسر قيودها الكابحة للأنا المبدعة والمتحررة..
الكتابة عند مستظرف: عن وللـ»هامش».
النصوص عند صاحبة «جراح الجسد والروح» خطاب واضح المعالم، لا يغوص في الغموض بل مبتعد عنه قدرَ المعاناة، خطاب للأنا، للآخرالقارئ المهمش، ذلك الذات الخارجة عن الذات الكاتبة، ليمتزجا داخل نص واحد، ويصرا ذات مفكرة واحدة، معبرة عن المشترك بينهما من آلام ومعاناة، من كبت وحرمان..
الكتابة عند مليكة، مبتعدة عن التجريد المشوش على الإبداع القصصي، إنها كتابة متناسلة مع اليومي في خيمة واحدة للواقع، لتلدَ نصا مُبهرا.. مليئا بِبَهارات الحكي والوصف.. بَهارات لا بدّ منها..
النص، أو لنقل عشرة نصوص: مجموع قصص مجموعتها القصصية «ترونت سيس»؛ ذلك الجناح المجانين والمرضى النفسيين في مستشفى بالدار البيضاء، تلك المدينة التي جابت شوارعها.. طلبا للشفاء من المرض العضال؛ (مجرد اختلاف، ترونت سيس، امرأة جلباب، وعلبة حليب، امرأة عاشقة امرأة مهزومة، الهذيان، الوهم، اختناق، مأدبة الدم، يوم من حياة رجل متزوج)، يقول الناقد محمد المودن عن هذه النصوص والمجموعة: قليلة هي المجموعات القصصية التي طبعت المشهد الثقافي المغربي بخصوصياتها من خلال مقاربتها لمواضيع ساخنة مستمدة من صلب الواقع المغربي لتعري عن هشاشته وقبحه وعمق انهزام أفراده وجنونهم، مجموعة ترانت سيس راهنت على قضايا المهمشين بامتياز سواء من خلال هوامشها المشكلة أصلا من مدن الصفيح بامتياز سواء من خلال تيههم في المدينة الشبح (الدار البيضاء) أو في هوامشها المشكلة أصلا من مدن الصفيح لترصد واقع الإجرام/ الدعارة /الخشونة / الاستغلال الجنسي / الأحلام البائدة / والقهر النفسي والاجتماعي.. فإبراز الوجه القاتم والحقيقي للواقع بقدر ما أبان عن المعاناة والتطلعات أبرز واقعا موازيا للتخلف الاجتماعي نتيجة للتهميش السياسي في مغرب آخر لا ينتمون إليه سوى بوشائج هشة وهم في صراعهم القاتل مع الحياة اليومية ولقمة العيش المغتصبة». 
قصص/ نصوص ترصد الحياة الاجتماعية للطبقة المسحوقة والفقيرة وغير المتعلمة.. قصص تعجّ بشخصيات من «عمق المجتمع»: (المغتصب، البقال، الأب المتسلط، الأخت المومس، الأم العاجزة…) شخصيات تعاني من معضلات اجتماعية ونفسية. إنها كتابة مرّة بطعم العلقم وبمداد الألم «فالضرورات تبيح المحظورات» بالقوة بل تدخلها ضمن المألوف والمتعارف عليه. إنها حيوات شخوص مستمدة من الواقع المغيب في الكثير من الكتابات برغبة أصحابها وتطلعاتهم ونظرتهم للحياة والأشياء من حولهم داخل دوامة قاتلة.
خطاب الموت.. وتهافت التهافت:
- أحس بهذا الروتين يخنقني. كأنه سم أتناوله بملعقة… يسري في جسمي وشراييني ببطء، يشلني … يخنقني ويأتي الموت أبدا– (يوم من حياة رجل متزوج).
- أول شيء فعله صفعني وقال «نهار الأول يموت المش». وعرفت بعد ذلك إنني المش أو القط الذي يجب أن يموت.— (امرأة عاشقة….امرأة مهزومة).
ما نلاحظه بشكل يعتريه كل الوضوح، لا نحتاج معه للعودة إلى معجم حقول المصطلحات: «خطاب الموت».. إنه الخطاب الطاغي على كل الكتابة عند هذه القاصة، لعله نابع (حسب نظرنا) من ذلك الخوف الذي تحدثنا عنه في بداية نصنا هذا، الخوف من الرحيل دونما ترك أثر يخلّد صاحبه في الذاكرة الإنسانية..
رحلت عنا، مند ما يناهز العقد مليكة مستظرف، تاركة خلفها نصوصا تجعل منها أن تكون ملاكا أبيض القلب، محلّقا في سماء الأدب المغاربي والعربي، ولما لا الإنساني. إنها صوت المقهور، صوت المهمّش (سياسيا واقتصاديا واجتماعيا…)، صوت المثقف المنسي..
إنها مرآة الاتجاه الأدبي الواقعي، مرآة شبيهة بمرآة «بياض الثلج»، هذا الاتجاه الذي بلغ نضجه رفقة أسماء قليلة.. مشتركة معهم ما تشترك وتختلف فيما تختلف.. عبر إبداعها الخاص..
مليكة من الأسماء المبدعة التي تمّ خنقها.. اسم لم يرد له الظهور.. خشيةً من أفولِ أصنامهم.. أصنام كرّست (بلا موجب شرع، وعن غفلة من التاريخ) نفسها في هرم عاجيّ.. صنعته لنفسها..
مستظرف رحلت عنا دونما أن تزهرَ شبابا.. رحلت بعد معاناة مريرة مع المرض.. دون التفات من الاتحاد المزعوم.. ولا الوزارة الزائدة.. لكن بمجرد أن تم الإعلان عن موتها، تهافت الجميع إلى البكاء عليها.. حتى المؤسسات الثقافية التي أهملت وتجاهلت مرضها، سارعت إلى رثائها بكل القصائد.. والأهم: تم إعلان عن قاعدة ثقافية تحمل اسم: مليكة مستظرف.. ثم الإعلان عن جائزة القصة النسائية تحمل اسم: جائزة مليكة مستظرف القصصية.. وجهات أخرى أطلقت على مراكزها اسم مليكة مستظرف التي في حياتها كانت بحاجة فقط إلى القليل من الحب والعناية والدواء.. إنه تهافت التهافت.. تهافت بلا فائدة ولا إفادة.. مليكة أكبر من هذا وذاك.. يكفيك أن تقرأ أي أقصوصة من أقاصيصها.. لتضيئنا نجمة في السماء.. مليكة ملاك يحوم عاليا هناك.. دونما هوادة ولا كلل.. إنها باقية أبدَ الحكي، قصصها..

٭ كاتب مغربي

عزالدين بوركة