كتابة الواقع عبر تكثيف الكتابة

خميس, 2015-02-05 21:51

هناك مقولة بليغة لنيتشه يقول فيها: «أطمح أن أقول في عشر جمل ما يقوله آخرون في كتاب كامل»، بمعزل عن السياق العام لهذه الشذرة، فإنها تكاد تومئ إلى نواة نظرية تسائل أساليب الكتابة، وهي تقدم نتاجاتها المختلفة، من دون أن نقيم حمولتها الزائدة ووظيفتها الكمية، إذ قلما ننتبه إلى المنسوب الزائد في مؤلفات غزيرة الكلمات والأوراق، منسوب تفيض عنه كثرة الوصف والسرد، والشروحات والتبريرات، والأمثلة والأدلة، والمراوغات الاستدلالية، ناهيك عن تخمة الحشو.
فكم هي كثيرة تلك الأعمال التي يراهن مؤلفوها على عدد الصفحات وأحجام الكتب حتى يتمكنوا من الظهور في أعين قرائهم أكثر غزارة وتمكنا وسيولة في الإبداع، متناسين أن هناك عينا فاحصة قد تأتي يوما ما وتكشف عن ترهلات نصوصهم، التي تضيق بما يحملونها من حشو وزوائد يجترون فيها اللغة والتراكيب والصور والأساليب، وحتى القضايا المتناسلة هنا وهناك بين الكتاب أنفسهم.
يدعونا هذا الطرح إلى مساءلة طبيعة الكتابة وحدودها الفنية والدلالية؛ هل يعود بنا هؤلاء إلى عهود السرود الطويلة، والتأريخ للوقائع المتداخلة بين الواقعي والخرافي؟ حيث كان الكتاب المصدر الوحيد للمعرفة قبل العين والصورة، والمؤنس الحميم في زمن يطول نهاره وليله، وحيث لم يكن آنذاك من وجود للمذياع والتلفاز؛ واليوم نشهد تحولا كبيرا في درجة الوعي بالتلقي، تلق سريع، وقارئ ذكي وعجول، فهذا القارئ المعاصر قد خبر عمق الحياة وأسرارها، وتقنيات التواصل الذكية لالتقاط ما يريد الكاتب تبئيره والقصد في تمريره، وهذا واحد من أسباب عزوف الكثيرين عن ملاحقة سارد لاهث، أو شاعر ثرثار، أو مفكر مراوغ في أطروحته، أو سينمائي مطاطي يمدد مشاهده من دون إقناع بصري وموضوعي…
لا شك أن كل كاتب يعي بذكاء تام ما يريد إيصاله إلى قارئه، لكن تخونه أحيانا أساليبه وعدته في استلهام الواقع ومحايثة قضاياه كي يحوله إلى مادة إبداعية، بمعنى أن قضايا الواقع غزيرة ومتناثرة ومتشظية، والمبدع الذكي هو من يقتنص أهم تفاصيلها بما يخدم حجم رؤيته، إذ يعمد إلى تكثيف الواقع عبر تكثيف الكتابة مستعينا في ذلك بطرق وآليات تسعفه في تجنب اللف والدوران، حتى لا يسقط في مطبات الكتابة التقريرية الفضفاضة، لذلك نجد أن الكتاب الناجحين يلجأون إلى توظيف عناصر إيحائية وترميزية على مستوى الشخوص والأمكنة والأزمنة واللغة المشفرة المكثفة التي تعتمد على بعض تقنيات الحذف والتناص والتشذير … لتقديم الدلالات المشبعة التي تليق بالقارئ المعاصر الذي تربى في ظل عالم قائم على الاختزال والايماء والإيماض… فكم من الأعمال التي نالت الحظوة يمكن تلخيص تفاصيلها واستكناه قضاياها الجوهرية إلى درجة السطر الوحيد، لولا تقنياتها وتعابيرها الجميلة التي تمتعنا بجمالية توصيفاتها وسردياتها وأحابيلها المشوقة، فرواية «الشيخ والبحر» لإرنست همنغواي مثلا، يمكن استخلاص رسالتها الفنية في كونها تريد القول إنه «في عز الهزيمة يمكن الظفر بنصر صغير»، أو «إن القوة الروحية أعظم من القوة الجسدية»؛ والطرح نفسه ينطبق أيضا على الإبداع البصري، ففيلم «تيتانيك» الذي أبهرنا بجمالية تقنياته وضخامة إنتاجه، وعصر قلوبنا من العاطفة الجياشة، فقط ليعبر عن موقف إنساني دال في سطر واحد هو «فيلم تيتانيك، سفينة تغرق، وحب يطفو»، في إشارة إلى انتصار ما هو إنساني ومثالي على حساب كل مادية باذخة، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد…
إن ما يعلق في أذهاننا ووجداننا سوى فكرة واحدة عميقة، أو لحظة إنسانية نبيلة، أما التفاصيل الأخرى فهي تتلاشى لكونها مجرد موتيفات تعين المتلقي لفهم موقف إبداعي كهذا، تماما مثلما علقت بذاكرتنا نصوص، نعم نصوص على قلة مفرداتها، كالأمثال والحكم التي تناسى الجميع ملابسات قصصها، والشذرات وأقوال العظماء والفلاسفة والأدباء والخطباء…
إننا من هذا المنظور لا نبتغي الإجهاز على رصيدنا الإبداعي جملة وتفصيلا، والتنكر لروائع وازنة رغم طولها، إذ أن مبدعيها استطاعوا أن يوازنوا بين طبيعتها النوعية ومقاسها الكمي، ولكننا ندعو فقط إلى الانتباه إلى بعض الانفلاتات وجرات الأقلام التي ينساق وراءها الكتاب، فيمعنون سفاحا في إفاضات لا طائل منها، من دون تسوير أو تدقيق لحدود الكتابة دلاليا وشكليا وفنيا، وتلك هي فجوة نقدية لا يُنظَر من خلالها لتقييم وتقويم الوظيفة الكمية للكتابة، موازاة مع طبيعة التلقي الراهن، خاصة في ظل ثقافة الاستهلاك السريع التي كرستها ألوان خطابية جديدة لها جماليتها وذكاء وظيفتها التواصلية، مستفيدة في ذلك من بلاغة الصورة متحركة أو صامتة، تماما مثلما نجد في الخطاب الاشهاري والإعلام السمعي البصري والمكتوب، ذلك الخطاب الذي يراهن على المقتطفات، فالحمولة الدلالية للصورة أو الكلمة الحاملة لأسماء شخوصية أو مكانية أو ذات طابع اصطلاحي متعلق بميدان ما…
تختزل الكثير مما هو مترسخ في ذاكرة المتلقي ودخيرة قراءته، إذ لم يعد بحاجة إلى مزيد من التوصيف والتذكير والتفسير؛ إنها دعوة لفرملة هذا التداعي الثقيل الذي يجعل النص أكثر بدانة بلغته، وحيث لا يقوى القارئ على ملازمته والإقبال عليه، نحن أمام متلق جديد هو صنيعة أنساق جديدة تكاد تسلبه القدرة على التفاعل مع اللغة وفهم تضاريسها، فالكاتب اليوم مطالب بإعادة النظر في تقنياته اللغوية لاحتواء الواقع ومساءلته ومعالجته إبداعيا بأقل عدد من الخسائر اللغوية احتراما لقارئ متبرم من الكلمة، وعناية بالوقت الثمين لقارئ آخر ذكي وموسوعي، وكلا المتلقيين هما صنيعة زمن نفسي سريع نعيشه بعد أن فقدنا الاحساس بالزمن الفيزيائي الحقيقي.

كاتب مغربي

سعيد السوقايلي