هذا عشب لضفائركنّ أنتنّ أيضا!

جمعة, 2015-02-06 11:51

تفد سنية الفرجاني على الشعر التونسي، في مستهلّ هذه الألفيّة الثالثة، بكلّ أريحيّة الشعر. وعندما استلمت كتابها هذا مخطوطا» عشب لضفيرتها»؛ قرأته في أقلّ من جلستين، وفعلت ما أفعله عادة مع هذه النصوص الشعريّة الاستثنائيّة الهادئة التي أحبّها، وأستمع إليها وكأنّها تلك الموسيقى الصامتة أو المهموسة التي نصغي لها بقلوبنا وأسماعنا، في عزلتنا الباذخة؛ حيث لا يجالسنا سوى حزننا الطيّب المعقود على الشجن حدّ الضنى. سلكت إلى كتاب سنية ـ وهذا دأبي ـ كلّما أحببت كتابا ـ من باب خلفيّ عسى أن أمسك بالخيط الذي ينتظم نصوصه. ولعلّه ليس أكثر من خيط العنكبوت نسّاجة النّجوم، بل لعلّي لم أمسك إلاّ بشكل تواريها. ربّما كان عليّ أن أتنسّم ضوءها الدّاخلي أو ما كان يتهيّأ لنا أنّه ضوء، أعني الوعي الجمالي بالحاضر.
تدخل سنية قصائدها بمفردات كأنّها وقعتْ للتّوّ من الأشياء التي كانت عالقة بها، أو التي هي تحتفظ بها ـ كما كتبت ذات مرّة عن الشعر الذي أحبّه ـ وهي تقشّر وقائع معيشها، وتأخذ أغلفتها إلى قصيدتها؛ لتعيد تركيبها في الميديوم/الوسيط الشّعريّ.
أتحدث مع الفراشات والنملات والريح/أرقد متأخرة دون أن أجد يديك/منذ البدء كان يلزمني بصر لأراك/لا جسد لي يكفي/لأحبّك مرتين/عندما أفتح صوتك على مصراعيه/أرتجف كثيرا/قبّلتك/ تقسّم العصافير لألوان بلّوريّة/ وتبدّل هجرتها من الجنوب…
ولا يتعلّق الأمر ههنا بكبير تنظير لما يمكن أن ينشأ من علائق بين الفعل الفنّي واليوميّ، وإنّما يطالعنا النّصُّ كما لو أنّه واحد من أشياء الشاعرة وهي في بيتها مع زوجها وأطفالها. وهي الطريقة التي تستوقفنا عند يانيس ريتسوس أو سعدي يوسف. 
إنّما الأمر على وشيجة بجماليّة المبتذل ـ وأنا أستخدم هذه الكلمة بمعناها الإيجابي، وإن كنت أنزع إلى أنّ سنية تستعيرها ـ وهي خرّيجة قسم التاريخ ـ من جنسيْن فنّييْن آخريْن: الرّواية أو القصّة والفنون التّشكيليّة، على ما أرجّح. وربّما من نوع من السرد التاريخي. 
وأقدّر بعد معاشرة طويلة للشعر قديمه وحديثه، أنّ المطلوب في بناء القصيدة، هو التكثيف اللغوي أو الاقتصادَ في العبارة، تفاديا لتبذير الكلمات أو نثرها، من دون سند أو منطق من النصّ. والتبذير لا ينمّ عن احتفاء باللّغة كما قد يُظنّ، وإنّما عن استخفاف بها. ولا أعني أيضا أنْ يتمّ بمقتضى التّكثيف الزّهدُ في تسمية التّفاصيل والتّرفّع عن دقائق الأشياء ورقائقها. فالتسمية مطلب الشعر حتى لا يفقد صلته بالحياة.
لعلّ ما يُحمد لهذا الكتاب الجميل لغته المقتصَدَة وهي تقول تفاصيل اليوميّ والمعيش، بشيء كالرّسم والسّردُ معا. ولا أحبّ بهذا أن أقول إنّ هذا الكتاب الشعري لوحات تشكيليّة؛ وإنّما فيه من مقتضيات التّشكيل البصريّ، وإن بتمثّل لغويّ. فاللّوحة هي أيضا تكثيف، وربّما تكون حتّى أكثر تكثيفا من القصيدة؛ فمهما اتّسعت مساحة القماشة فإنّها محدودة لا تفلت من الحقل البصريّ. وإنّما هي جزئيات وتفاصيل، بل أشياء بسيطة، قد لا ننتبه إليها في معهود سلوكنا اليوميّ. ولا أحبّ أيضا أن أقول إنّ قصيدة سنية قصّة قصيرة مكثّفة؛ وإن كنتُ أجدُ بينها وبين أسلوب القصّ المبتسر وشائج وأواصر، لعلّها ممّا يزيد من جماليّة اليوميّ فيها. وعليّ أن أبدي ملحوظة ها هنا وهي، أنّ هذه الجماليّة لا تعني تحويلَ اليوميّ إلى موضوع جميل، فمن أشدّ خصائص اليوميّ التصاقا به خاصّية المعاودة والتّكرار بالوتيرة نفسها تقريبا. وهذا ما يجعل الشعر يغنَمُ من اليوميّ نبض الحياة.
كلّما ضاقت الأرض/ وسّعها صوتك /ومشيْتُ في العزلة /أطرق بابًا / يمنع هذا المكان من الريح /ريثما أرتديك/لا تعرف الذي حدث في الوداع الأخير
كنت تضيء الصباح بعينيك…
القصيدة في هذا الكتاب «قصائدَ» تشكّلُ اللّحظاتُ الزّمنيّةُ مجتمعةً، مختلفَ عناصرها ومكوّناتِها. وبما أنّ أيّ زمن – في ما يقول أهل الفلسفة – يقع في كلّية الزّمن فإنّ القصيدة النّاشئة في زمن ما، لا يمكن إلاّ أن تتواصل فيها سائر الأزمنة وتتنادى. تكتب الشاعرة بقادح من ذكرى ما؛ لكنّ قولها «أتذكّرُ» لا يحيل إلى أشياء الماضي فحسب، وإنّما إلى أشياء تقع ولا تقع، أو هي ما تزال في طيّ المستقبل، بل يتهيّأ لي استئناسا بهذه القصائد أنّ التذكّر ليس إلاّ ضربا من تأمّل النسيان، وأنّ النسيان ليس سوى طريقة في ترميم الذاكرة نفسها:
لن أغسل كؤوسا شربت منها /سأرتّبها مزهريّات على طاولة الليل تحادثني/ إذا خاط الليل، تفاصيله الطويلة /لن أمسح عنها ضباب شفتيك /سأَرَقّعُ الغياب بالضبابْ
وسأجلس القرفصاءً على حافة السرير/أنتظر الكؤوس تحدِّثني /من بقايا كلام على الزجاج/ يعيد ترتيب انزعاجي.
ولعلّ هذا ما يجعل هذه القصائد تنضوي إلى «شعريّة الأثر».. أعني أثر اللّغة التي يطويها النّسيان أو ما يتبقّى بعد أن تُعفِّيَ الذّاكرة كلَّ شيء.. وأنا أقصد ها هنا الأشياء، التي من أظهر سماتها صفاء اللغة، وانسجام صورها السّائغة المقبولة تلك التي يقع عليها ما يقع من حالات الشاعرة وعوالمها الحميمة، وينجرف إليها ما ينجرف من أضواء الماضي وظلاله؛ خاصّة أنّها تنزع إلى لغة شموليّة تدور في مدارات قريبة إلى عناصر الكون، وتخلص إلى بداهة الأشياء، ولا تتردّد في نسج شوابك القرابة بين الاسم والمسمّى في صور تنتسج من خلال نقض النّقيض ونبذ الحدّ والفارق. وربّما أثارت بعض القلق، في عوالمنا الأليفة وأشيائنا التي استتبّت أسماؤها؛ وهي تنفذ إلى تفاصيلها، وتقف على محتمل حركاتها، إلاّ أنّها تظلّ في الأعمّ الأغلب متناغمة متناسبة متوازنة؛ حيث لا يعلو صوت على صوت الشّاعرة، حيث لا خروج على التّوسّط، حيث لا مناهضة إلاّ لتشتّت المعنى. نعم لنقرأ هذه الشاعرة وهي تضيف إلى القصيدة التونسيّة من دون ادّعاء.. فهذا عشب آخر إليكنّ أنتنّ التونسيّات.. إلى ضفائركنّ .. يبزغ وحيدا.. من دون ضوضاء.

كاتب تونسي

منصف الوهايبي