ليل القرنطل / المتوكل طه

أحد, 2015-02-08 12:10

وصلت أعمدة النور إلى أعالي القُرُنْطُل، وركب التلفريك (القطار الطائر) الهواء إلى أعلى الجبل، ومدينة القمر، بعد ألفي عام، ما زالت ترقب شجرة زكّا العشّار، الذي اعتلى تلّةً، ومدّ قامته القصيرة، كي يرى زائر المدينة، الذي التفّ حوله جمهور غفير، لعله يباركه ويمسح عنه خطايا الجباية الآثمة ربع مالي أُعطي لتقبل دعوتي.. قال زكّا، نصفه، أو ما شئت يا سيد الطلّة المباركة. 
وقد انصعق الجمع من جلال قدرة المسيح، بعد صيام أربعين يوماً، أغاظ بها الشيطان، لتماسكه، وقد أطلق مقولته الذهبية: «ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان».
هذه هي أريحا، نتمطّى في ليلها الساخن الأخضر المتوهّج، بجمر صديقنا أبي الأمين، الطافح بما تشتهيه مائدة اللّمة، الريّانة بالضحك الأسود والأبيض، رداً على كل سانحة أو جارحة أو ضحكة، إلى أن تراءت لنا عباءة المسيح – عليه السلام – وهي تضفضف بهذا الليل النهاري، بين مزارع الموز والبرتقال، وإلى أن يقف على بوابة البيت، فتتّسع عينا أبي عصام وينسى مجّ سيجارته مندهشاً من هذا النور، الذي اتّخذ قوام رجل طاهر. ويرفع أبو عمر حاجبيه وتضيق نظراته التي يصوّبها نحو الآتي، كأنه يركّز ليستطلع ملامحه. ويدير أبو ضمير ظهره مأخوذاً، كأنه تمثال تكلّس، أو أن ميدوزا رمقته بسحرها الحجري. أما أنا فأعود مع أبي الأمين من داخل البيت إلى الساحة الأمامية، كأننا نفتح الأذرع والصدور فرحين بهذا الضيف، الذي لمح على ما يبدو نار القِرى، فجاء مستأنساً بضحكاتنا، التي شرخت العتمة وأبعدت ما اختبأ من هوام الظلام.
ولم نلبث سوى دقيقة أو أقل حتى اختفى الرجل، وبقيت هالته مثل إكليل الشمس على بوابة الدار.

* * *

والقرنطل جبل شاهق 350 م غرب أريحا، ويطلّ على نهر الأردن، وقد تم اكتشاف العديد من الأديرة والكنائس فيه، أهمها الاكتشافات الخاصة بدير قرنطل، وفوق هذا الموقع أمضى السيد المسيح عليه السلام أربعين يوماً وليلة صائماً ومتأملاً خلال إغراءات الشيطان له، 
ولهذا يُسمّى جبل التجربة أو جبل الأربعين. وقد أقاموا على ذروته المنبسطة الصغيرةِ الديرَ الحجري، الذي أخذ اسم الجبل، فصار يُعرف بـ»دير القرنطل»، ويظهر كأنه نصف إسوارة تلتف حول أعلى رأس الجبل المخروط، وأعجب كيف استطاع الرهبان بناء هذا المستطيل القائم على حافة الصخر، بهذه الدقّة والجسارة، فبدا الدّير معلّقاً في الأعالي، أو أنه كائن يتمدّد على أرفع وأعلى وأضيق مصطبة، ويدير ظهره إلى الغيوم الخفيفة، ولا يبالي.. فتخشى عليه من السقوط. 
وثمة طريق حجري شائك وضيق وصعب، يبدأ من قاع الجبل ويتلوّى على سفحه ويصعد، ليبلغ الدرج الصخري المنحوت، المفضي إلى غرف الدير العابق بالبخور. 
يقول أبو عصام: المسيح لم يختفِ، بل لم يأتِ أصلاً، إنه فينا، ولأننا نكره الشياطين ونحبّ السلام .. فقد فاض، وبدا كأننا نراه.
أما أبو ضمير فقد أكد على أن هذا النبي الشاب يعرفنا، وقد سمعنا.. فجاء يبارك قولنا، لأن زمن العَشّار، وإنْ ولّى، فلم يولّ سادة العشّار.
أما أبو عمر فقد قال: لقد دخل هنا، وقد أحسست بهواء عباءته العطرية يهفّ على وجهي، وربما لامسته، وأظنّه قد تمدّد لينام قليلأ من عناء التجربة.
وعاد أبو الأمين نافيأ أن يكون أي أحدٍ في الغرفة، وتوقّع أن يكون الرجل قد جاء ليشاركنا العشاء، فوجدنا قد انتهينا منه، فغلبه الخجل، فقفل عائداً..
أما أنا، فإنني أستمع إلى همساته التي يصبّها في أذني ويقول: لقد انتصر الشيطان عليكم، إلا الأسرى الذين أكملوا مهمتي الجليلة. وإني أجوح عليكم، لأن ليلكم ثقيل، ينزّ قطراناً، فيسحّ فجائع من مقلِ الذين لا يجدون سقفاً غير الركام.
وإني أرى ما تبقى من خيولكم الهزيلة تتعافرعلى بعضها، وهي تنأى عن العجاج الشريف، فتصطدم ببأس سيّدها البائس، الذي يأخذ أرض كنعان إلى النسيان والعدم. وإني لا أجد نخلة أُمّي، وكل هذه الاعذاق المدلّاة، لا تقطر حليباً ولا شهداً. إن خبزكم مرّ، وماءكم مالح، ولحم غزلانكم قد تغضّن في الزرائب والبراري، وإني أسمع كرّ ضحكاتكم المهتوكة، كأنها زجاج تحطّم في صدوركم، وتريدون أن تنفثوه، فيدميكم .
ولو كنتم تستطيعون بلوغ القدس، لقلت لكم: من رأى منكم حجارة طريق جلجلتي فليسلّم عليها ويقبّلها عنّي، وعزائي أن كل دروبكم للآلام، كأنكم ترسّمتم خطاي، وما زلتم مبذولين لقُبلة يهوذا القاتلة، الذي لم يكسب العالم وخسر نفسه، وبثلاثين فضة باع الرسالة. وأرى المجدليّة، من دون جدائلها المائية، فطريقكم شوك وعتباتكم عوسج، ومطارحكم كآبة، وغيومكم الصيفية يباب، وشتاؤكم من دون نار. ولعل الماء الدافق من عيون أريحا لا يشبه ماء قانا، لأن أيامكم بلا أعراس، ولا حاجة لكم بالنبيذ. لقد قمتم من نومكم غير مرّة، وبقيتم أحياء في الأرض والسماء، لكن نومكم هذه المرّة سيطول، وسيعجّ بالكوابيس والفزع، وغطيط نومكم يفجع الأسماع، وستقومون، والساحر ما زال يرشّ على عيونكم نعاسَه المشبوه، ووهمَ اليقظة. ولا أجد أشهى أو أحلى أو أغلى من هذه الأرض، التي كانت تنفجر لباءً وورودأ، على الشبابيك والجدران وفي المواسم، لكنها اليوم اختنقت بالغرقد، وبالأسمنت الذي يمانع الشمس ويعاند الرياح، فلا أجد لكم، غير أن تطيلوا سهرتكم هذه… فأوقدوا مزيدأ من الحطب، وانفخوا تحت جمركم المتحفّز، وابدأوا الحكاية من أولها.. ولا تناموا.
 
شاعر فلسطيني

المتوكل طه