الإسلام الثقافي / سعيد يقطين

أربعاء, 2015-02-11 13:01

أثارت قضية إحراق الطيار الأردني من لدن «داعش» نقاشات مستفيضة في وسائل الإعلام المكتوبة والقنوات الفضائية العربية. وكان أساس النقاش منصبا على هذا الحد، وهل بإمكان من يدعي «الخلافة» أن يمارس إحراق الأسير؟ وكان الاختلاف. فهناك من يرى أن التحريق مارسه أبو بكر وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب. وهناك من نفى تهمة الحرق في الإسلام، وعاد إلى المرحلة النبوية وإلى النصوص الحديثية لإثبات أن مبادئ المسلمين في الحرب معروفة، ورسالة أبي بكر أوضح من اتهامه بالحرق، ولا بد من التفريق بين الإسلام والتاريخ الإسلامي والروايات التاريخية.
هذه الاختلافات، خصوصا ما اتصل منها بالأحاديث الموضوعة، وبالروايات التاريخية الملفقة دعت البعض إلى المطالبة بتخليص الإسلام من «الشوائب» لأنها تعطي لكل من يدعي الإسلام من المتطرفين الحق في ممارستها على أنها من الإسلام، وهو منها براء.
أستنتج من كل هذه النقاشات حول الاختلافات المتعددة بين الفقهاء ورواة الحديث والتاريخ، أن التراث الإسلامي لم يدرس دراسة علمية موضوعية تفرغه من التأويلات المتعددة والمختلفة. فكانت كل الدراسات تأخذ من الإسلام والتاريخ ما يتلاءم مع أهواء أصحابها مقدمة إياها على أنها الإسلام. وإذا كنا نسلم بتعدد القراءات وأهمية الاختلاف في ذلك، فإننا نشدد على غياب الدراسات العلمية المقارنة التي تبحث في مختلف القضايا، ومن مختلف المنظورات، وباستدعاء التاريخ والسياقات المختلفة لتقديم وجهة النظر التي تتلاءم مع التصور الإسلامي ومقاصده للإنسان والجماعة، بغض النظر عن الأبعاد السياسية واختلاف الفرق.
كان القدماء أكثر تحريا وتدقيقا في بحوثهم حول الاختلاف بين المذاهب والقراءات والتفسيرات. كما كانوا أحرص في البحث في العلماء والرجال، وفي الجرح والتعديل، وفي صحيح الأحاديث وموضوعها، وتركوا لنا في ذلك تراثا مهما يتبين لنا من خلاله أنهم يقدسون عالما ولم ينج أي منهم من النقد أو النقصان. وكان الاجتهاد الذي يمكن أن يصيب أو يخطئ. لكننا، ومنذ عصر النهضة، حيث فرضت إكراهات على المسلمين، وكان الاصطفاف لمواجهة الغزو الاستعماري، أن بدأ توظيف الإسلام حسب اجتهادات خاصة، باعتماد ما يتوافق مع متطلبات الصراع مع الفكر الغربي ومواجهة المنافحين عنه، أن ساد الشعور باستهداف الإسلام، وكان التصدي لكل المخالفين عن طريق الدفاع عن الإسلام والتاريخ الإسلامي، فكان أن بدأت تظهر ملامح «تقديسهما» باعتبارهما كاملين، ويمثلان صورة المجتمع الذي ينبغي تأسيسه. فكانت السلفية التي ستتطور مع الزمان.
في أواسط القرن الماضي، ومع هيمنة الفكر اليساري في الوطن العربي، ستظهر محاولات لقراءة الإسلام والتاريخ الإسلامي، فيتم التشديد على الحركات المعارضة في التاريخ الإسلامي، وعلى النزعات «المادية» في الإسلام لتأكيد أن هناك «إسلاما» آخر غير الذي تم التركيز عليه، بل إننا وجدنا من يدعي أن الإسلام لا يتعارض مع الليبرالية أو الرأسمالية، وبالمقابل عثرنا على من يقدم الإسلام على أنه لا يختلف عن الاشتراكية.
كل هذه القراءات المختلفة كانت تصب في تعميق الخلاف حول الإسلام والتاريخ الإسلامي وتأويلهما حسب مقتضى الاتجاه السياسي الذي يمثله المشتغل. وكل حزب بما لديهم فرحون. وهم في فرحهم بما في أيديهم من «الإسلام» كانوا يغضبون بما في أيدي مناوئيهم من خصومهم «الإسلاميين». ومن هنا تعددت «الأحزاب» السياسية، وليس الفرق كما كان في القديم، وكل حزب ينشق عنه حزب جديد، وهم في «الإسلام» سواء؟ وتستدعي السياسة، أي سياسة، خرق حتى المعتقد الذي تنطلق منه، بمبررات ترى أنها مناسبة لإقامة المعتقد ونصرته. ويبين لنا تاريخ كل الثورات في تاريخ البشرية أن الاختلاف يقع في البدء بين أطرافها الفاعلين في تشكيلها. ويكون الانتصار إما لمعاوية على علي، أو للينين على تروتسكي…
مع أفول اليسار في الوطن العربي، سيظهر «الإسلام السياسي» على الساحة العربية، بأحزابه المتعددة، وكل حزب يرى نفسه أكثر «إسلامية»، وتمثيلا للإسلام من غيره. وكما في كل الحركات الحزبية والسياسية، سنجد المتطرف والمعتدل، وداخل كل منهما سنجد اليمين والوسط واليسار، تماما كما نجد في التاريخ الإسلامي، فهناك شيعة وخوارج ومرجئة. وكل حزب يمارس حروبه الإقصائية ضد الآخر باعتماد نصوص من القرآن أو الحديث النبوي يتأولها وفق إرادته، أو يمارسها تبعا لهواه، فيخرب الكعبة تارة، ويأخذ حجرها الأسود، أو يقطع رأس الحسين، ويمثل به، غير عابئ بالنهي عن التمثيل، أو ما شابه.
إن الغائب الأكبر في هذه الصيرورة مع ظاهرة «الإسلام السياسي»، هو «الإسلام الثقافي». ونقصد به الإسلام باعتباره رؤية للإنسان وللعالم. هذا الإسلام الذي جاء بالرحمة والحلم والإيثار، وصلة الرحم، والأخوة، واحترام الجار وإتمام مكارم الأخلاق. هذا الإسلام الذي جاء بهدف تربية الفرد تربية تسمو به عن النقائص، وترفعه إلى أسمى الدرجات في تعامله مع غيره، قبل ربه. هذا الإسلام الذي يحمل رؤية كونية لخلاص الإنسان من أهوائه التي تدفعه لتبني القيم السلبية التي تسبب الشقاء للإنسان. هذا الإسلام الثقافي لا علاقة له بالإسلام السياسي الذي يشتغل بـ»السياسة»، لكن بلا ثقافة.

كاتب وناقد مغربي

سعيد يقطين