الأردنية كفى الزعبي وشيفرات الكتابة النسوية

أربعاء, 2015-02-18 21:49

الكتابة النسوية تظل مثار جدل دائم، ليس لهويتها الإجناسية في الجندر، أو في الإيروس أو في مقاربة الحمولات الدلالية لمفاهيم الإنوثة والفحولة، بل لخصوصية هذه الكتابة في مقاربة إسقاطات التابو عبر ثنائية المدنس والمقدس، أو في حيازة إمكانية لسردنة مشكلات الواقع والجسد والحرية، والكشف عن المسكوت عنه والمضمر النسقي في هوية ما يمكن أن يحمله النص، وما يمكن أن يستدعيه من توصيفات يمتزج فيها الحسي مع الثقافي، والتاريخي مع السياسي، والاجتماعي مع الديني.
الروائية الأردنية كفى الزعبي حاولت أن تحمل بعض هموم هذه الكتابة، وأن تضع هواجسها عند عتبة القراءة، بحثا عن قارئ يدرك شفرات حمولتها الرمزية، مثلما يضع فعل القراءة السردية بمستوى القراءة التاريخية، استكناها لما تهتكه من الخفايا والأسرار، ولما تبثّه من رسائل إلى ذلك القارئ المسكون بهرمونطيقا التاريخ والنص والوعي الاجتماعي والديني والعصابي، والمشغول بإعادة قراءة نقد ثقافية للأنساق المضمرة للأنوثة والفحولة والتطرف والهوية وغيرها، ولقيم الحداثة وأسئلتها بوصفها انشغالات ضاغطة على العقل الثقافي.نساقأنساق النوثة والطرفأنساق 
في معرض بيروت الدولي للكتاب الأخير، الذي شاركت في بعض يومياته، حضرت جانبا من جوانب الندوة التي أقامتها الروائية كفى الزعبي حول روايتيها «س» و«ليلى والثلج ولودميلا» الصادرتين عن دار التكوين/ بيروت/1014 والتي أقيمت على هامش المعرض، وشارك فيها المترجم إسكندر حبش والروائية فاتن المر، إذ أثار النقاد جدلا حول الروايتين، على المستوى الفني، وعلى المستوى الثيمي وكيفية معالجتها للأفكار التي طرحتها، فضلا عما طرحته الروائية ذاتها من تصورات عبر مقارباتها السردية، التي تجوهرت حول توصيفها للكتابة النسوية ونظرتها للعالم والأفكار والصراعات التي تخص الذات والوجود، فضلا عما تمثله من إرهاصات بطبيعة هذا الجنس السردي، وما يمكن أن ينماز به من تمثلات نفسية وحسية، وحتى سياسية وثقافية لها رؤيتها وقاموسها، وربما لها توصيفها الجندري، الذي يجترح له منظورا خاصا لفعل الكتابة ولطبيعة تمثلاتها الجنسوية.
في رواية «س» تحمل الكاتبة شيفرة المجهول للحرف، بوصفه باعثا دلاليا للغموض وللإثارة، ولوضع عالم المرأة أمام عقدة وجودها الرمزي، وأمام سرائها، وفي سياق أوهام ذكورية مهيمنة، تلك التي يمكن أن تكشف عن خطورة ما يمكن أن تواجهه من أزمات تمسّ هويتها الأنثوية، وخصوصية شخصيتها في النص والعائلة والجسد، ورؤيتها لما هو قار في التاريخ عبر ثنائيتي الزمن والمكان، وعبر ما تكرّس فيهما من أنموذج وأثرٍ للمرأة الجارية والغانية والعاشقة الحيالة والساحرة، فضلا عن إرث المادة النصوصية التي تخفت تحت مهيمناتها الكثير من الرغبات المكبوتة والأحاسيس المتوترة.. مثلما هي تعبير ثقافوي اشتغالات تلامس اليومي والهامشي والعابر في مباحث ما بعد الحداثة، وكذلك في طروحات ثقافوية التابع التي اشتغلت عليها مباحث ما بعد الكولنيالية، تلك التي نظرت للمرأة من خلال ما أشاعته مفاهيم نظرية النقدية النسوية بوصفها أيضا مناطق اشتباك مفاهيمي، لاسيما مع اتساع هذه الطروحات وهي تناقش مشكلات الهوية والجندر والجنس، ووظيفة المرأة في عالم ماتت فيها الأيديولوجيات الكبرى، وتمثلها لعوالم تلامس وحدتها واغترابها والنظرة الراديكالية لمفاهيم الحرية والجسد والأنوثة..
الرواية تلامس فكرة المجهول في الحياة والتاريخ والقوة، مثلما تلامس فكرة الضعف، التي تحولت إلى مادة دسمة لقراءات محتملة، وأفكار باعثة على القلق، تلك التي ظلت تهجس بتحولها إلى مشغل نقدي لإنعاش سرديات التاريخ، وسرديات الجسد، وسرديات الأيديولوجيا، فضلا عن سرديات الواقع الذي يتضخم كثيرا على حساب الوعي، إذ تتمثلها الكاتبة من منطلق أنها جوهر حياتها في العائلة والمطبخ والشارع، وفي العلاقة مع الأخريات والآخرين، حتى بدت وكأنها تضع نفسها تماما في السياق الروائي دونما مخاتلة أو تهويل سردي، مثلما يبدو الواقع وكأنه الأكثر رعبا من التاريخ ذاته، لأنه واقع بلا حصانات وبلا صيانة، ومحشو بالعديد من مظاهر الرعب الاجتماعي والنفسي ومظاهر العنف والتطرف الديني، وأن فكرة الاغتراب التي تعيشها بطلتها تكمن في إحساسها بالخوف من تمدد هذا الواقع إليها، مقابل فقدانها القدرة على تحمل هذه الحياة النمطية والمكررة، تلك التي تبقيها عند حافة المجهول والقلق، والتي تتحول من خلالها بعض مظاهر حياتها في المكان إلى يوميات فاجعة، وإحساس بالخواء الداخلي، ذلك ما يقابل نظرة الرجل اليها في عالم مقطوع الدلالات، بوصفها الكائن الضعيف والهش والفاقدة لهويته في الجندر الاجتماعي.. 
وفي رواية «ليلى والثلج ولودميلا» تنسج الكاتبة خيوط عالم تسكنه كائناتها الروائية (نساء، رجالا، عربا، روسا، شيوخا، شبابا) وهم يعيشون لحظات الانهيارات الكبرى في التاريخ المعاصر، إذ يلتقون عند عتبات مسكونة برعب تلك الانهيارات في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، عند انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانطفاء جمرة الحرب الباردة، وبداية صعود الحركات الأصولية، التي تحمل معها علامات رمزية لانهيار أنموذج الثوري القديم الأيديولوجي والمسلكي، والمثقف القديم اليساري والقومي، حتى تبدو فكرة (نهاية التاريخ) التي تحدث عنها فوكوياما تعبيرا عن مقابل (ثقافوي) لهذا الانهيار الذي مسّ ملامح الظواهر السياسية والأفكار والأيديوجيات التي عاشتها أجيال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، مثلما جاءت شفرات عنونة الرواية دالة في التعبير عن سيمياء حمولاتها لتلك النهاية، وكأنها استعارة لموت الفكر البارد والحياة الباردة التي تجاوزها الزمن باتجاه البحث عن وجه آخر للمعنى والوجود والحرية…

كاتب وناقد عراقي

علي حسن الفواز