الإسلام السياسي… نظرة ثقافية

خميس, 2015-02-19 12:36

المقاربات الثقافية لفهم ظاهرة الإسلام السياسي ما زالت أقل مما يستوجبه حضور الظاهرة. كما أن القراءة السوسيوثقافية للمسجد أو الجامع تكاد تنعدم في ظل تصاعد الأدوار التي يؤديها. على الرغم من كون التجربة الدينية، والدين ذاته، داخل علاقة تقوم على التأثُّر بالحاضن الثقافي، بالإضافة إلى أن الحاجات الطقسية والعبادية مستمدة من حس ثقافي، ولها العنوان الفني أو الأدبي ذاته، حتى النزوع الفردي الصريح للرهبنة، كصيغة من صيغ التديّن الشخصي الإستبطاني لم يكن في العالم العربي خلال العقود الأخيرة سوى حلقة من حلقات الدين المرعي مؤسساتياً.
لقد فقد الدين صيغته الشعبية القديمة لصالح المؤسساتية والحزبية، ليكتسب طابع الخلاص السياسي، وذلك بدخوله في حالة التديُّن بكل ما فيها من طقسية وتحجُّر ثقافي واجتماعي. كما يبدو ذلك صريحاً في المهرجانية الدائمة، التي يتم عبرها استعراض القوة بالرهان على الكثرة والاستقطاب. فيما توحَّد مفهوم الناشط السياسي مع الناشط الديني بالمعنى الثقافي للكلمة، ولم تعد التجربة الذاتية التأمُّلية للمتدين تمثل أي أهمية قبالة التحشيد الجماهيري مهما تعددت أنماط الاعتقادات.
وبموجب القاعدة القائلة بأنه في ظل انهيار السياسي ينهض الثقافي، جاءت موجة التديُّن من هذا الباب الثقافي الواسع، على إيقاع دعوات ترى وحدة الديني بالثقافي. فيما كانت البنية الدينية الفوقية تتلاشى قبالة التمدُّد الواسع للمارسة الدينية المرتبطة بالمؤسسة، داخل ما يمكن الاصطلاح عليه بالسوق الديني، الذي يأخذ موقعه على الأرض ليقوض الأنماط الثقافية التقليدية بأنماط تجريبية حديثة تضع الخبرة الدينية بمعناها الطقسي والأخلاقي والاجتماعي داخل بنية وظيفية.
وعلى هذا الأساس نشأ مجتمع جديد داخل ثقافة مغايرة، تضع الكون القدسي في مدار ثقافي مسيّس، بحيث لا تبدو التجربة الدينية متسامية أو شعائرية إلا من حيث المظهر، لأن الشأن الديني صار في عهدة المؤسسات والمنظمات الدينية التي بمقدورها إدارة المجاميع البشرية وفق أجندة سياسية، وذلك وفق تصور يزعم حضور الألوهي في تفاصيل اليومي الذي تتجسد مرآته في الثقافي والاجتماعي، أي تأسيس بنية وضعية تنمو فيها المفاهيم الحقوقية بمعناها السياسي، أي إنتاج وعاء ثقافي انتقائي يفتقر إلى العفوية والحرية في التعامل الورع مع الرباني. ولأن الدين يلبي الحاجات المرئية واللامرئية من السلوك والمعارف للإنسان، راهن الإسلام السياسي على القيم النفعية، التي توحي بوجود منظومة قيم ثقافية كبرى لا تصدأ مع الزمن. وعلى هذا الأساس تشكلت ظواهر الانتظام البشري، المؤسسة على قيم ثقافية تشاركية جامعة، داخل بنية اجتماعية فوقية، قوامها الوعي الجمعي، الذي يشكل سر النظام الاجتماعي وذلك بمقتضى الاتكاء على موروث ثقافي يمجّد فكرة الجماعة، ولا يقر الفردانية.
وهكذا صار الدين، المتمثل هنا بالإسلام السياسي عامل تماسك اجتماعي، ضمن لحظة تاريخية، بدت فيها المجتمعات العربية وكأنها مجتمعات بدائية من الوجهة الثقافية. كما بدت الدعوة إلى الطهورية والعودة إلى الطور الأولي للحياة الدينية فكرة فائضة بالرومانسية، حيث تراكمات الإشارات لتحدد إطار الصورة التي تمتلكها تلك المجتمعات عن نفسها، ومن ذلك الممكن بالتحديد تم استيلاد المقدس السياسي، بمعناه الجارف لكل ما عداه، وكل ما يخالفه أو يتناقض معه.
ومن هنا أيضاً انبثقت الفورانات الجماعية، التي ابتنت مقدسها الجمالي والموضوعي داخل سياقات اجتماعية تمتلك مخيّلها ووعيها الجمعي الكفيل باستيلاد منظومة من القيم المتعالية، تحولت بفعل التراكم إلى قوانين وتعاليم، على اعتبار أن القيم والمثل العليا تمثل نقاط الارتكاز في إدارة الجماعات، فهي جوهر النظام الثقافي المشترك الواعد بالمنافع الفردية، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يعمل بدون نظام ثقافي. وهذا هو نظام التشغيل للجماعات الدينية، القائمة على تنظيم مركب يتم في داخله بشكل متواصل وكثيف تبادل الحوافز والمعلومات والطاقة والرقابة والفوضى والنظام.
وعلى هذا الأساس يمكن ملاحظة ارتفاع منسوب القيم الدينية، ولو بمعناها المظهري الاستعراضي، في الجسد الاجتماعي العربي، وهو فائض لم يتضاعف بالصدفة، إنما بموجب جرعات مؤسساتية أرادت من خلاله المنظمات إبراز النظام الرمزي للجماعة وضبط إيقاعه الثقافي. وهذا ما تؤديه الوظيفة الدينية التي تحقق الطمأنينة النفسية والاجتماعية والبيولوجية، بحيث يُستدمج النزق الفردي في رومانسية الوحدوي المركزوي، وبتلك الكتلة البشرية المبرمجة يتم اقتحام الفضاء العمومي، وهذه هي الآلية التي تتيح لجماعات الإسلام السياسي توليد نسق قيمي مشترك.
يبدو ذلك النسق القيمي صريحاً في المتواليات الشكلية التي تمثل صورة من صور العرض الثقافي للذات المرتبط بالهوية المضادة بدورها لفكرة الآخر ووجوده، سواء من خلال الذقن الذي يؤكد الاقتداء بالسلف، ورفض السمت الحداثي للكائن البشري، أو في الأزياء التي توحي بالماضوية باعتبارها المعادل للأصالة أو حتى في طريقة التخاطب والمعجم اللغوي المستمد من الموروث، كدليل على الارتباط بالنبع الروحي الصافي، حيث تتحول كل تلك الإشارات إلى فعل ثقافي تأخذ موقعها على أرضية اجتماعية، لتستحيل إلى فاعلية سياسية.
يحدث هذا لأن الجماعة تمتلك إرادة التمدُّد والاستقطاب، فهي وإن بدت حركات دروشة فردية، إلا أنها محكومة بنظام ثقافي رصين، لا يقوم على التأويلات الذاتية للحياة، بقدر ما يعزز فكرة الانتماء للجماعة، والاسترشاد بنظامها الثقافي الطوباوي والذوذ عنها، والتعبير السلمي والعنفي عن أفكارها وتضئيل دور الفرد خارج الجماعة. وكل فرد ينتمي إلى مؤسسة أو منظمة أو هيئة، سواء كانت رسمية أو أهلية، هو جزء من استراتيجية استحواذية، يأتي في سياقها لجم الثقافي وتبديد أي فكرة جمالية.
الدين عامل تغيير اجتماعي كبير، وهو فضاء رحب لإنتاج القيم الثقافية الكبرى، ولذلك تعمل جماعات الإسلام السياسي على تخليق كاريزما دينية من منطلقات ثقافية، بحيث تسبغ على شخصياتها سمة العصرية والمعرفية والأخلاقية والاجتماعية والدراية السياسية. وتضع كل ذلك ضمن صيغة ثقافية عنوانها التجديد، بمعنى أن النسخة المحدّثة من الزعيم الديني، بقدر ما تنهل من معين النبوات والسلف الصالح، توحي بالدينامية والقدرة على مقارعة الشخصيات المعاصرة، التي تتم شيطنتها قبالة الشخصية الإسلامية الخيّرة والواعدة بالصلاح الإنساني.
ولا شك أن معظم حركات الإسلام السياسي تعي أن الدين فضاء للمعاني الحياتية المهمة. وهو ثروة رمزية وروحية تستمد طاقتها من المقدس، ولا يمكنها أن تنمو إلا داخل بنية إنتاجية مادية، ولذلك يأتي نتاجها الثقافي على شكل مجاميع بشرية ليست بالضرورة متعالية معرفياً، بقدر ما تمتلك الاستعداد لخدمة تنظيم منغلق على نفسه، وبالتالي لا بد أن تكون مسيّسة وراغبة في بسط فكرة الجماعة. كما تختزن من الحماس ما يكفي للتورط في صراعات كونية رمزية لشد عصب الجماعة، وتأجيج نعرات النقاء والتفوق لغزو فضاءات الآخر ومناقدته من منطلقات أيديولوجية.
وهنا مكمن العبث بالقيم والرموز والنظام أيضاً، فالشخصية الدينية لا تأبه لا للثقافي ولا للاجتماعي ولا للاقتصادي، ما لم يدخل في حلف معها، أو يكون قوة مساندة لها. ومن هنا تبدو المنظمات الدينية أقرب إلى الشكل الاجتماعي المنظم الذي ينهض على فكرة الاستحواذ، وأبعد ما تكون عن فكرة الدين بما هو الحيوية والفاعلية التأمُّلية للوجود، لأن بنية التديُّن ثابتة، كما يفصح عن ذلك تاريخ الأديان، إذ تصب مختلف أشكال الاعتقاد الخرافي والصوفي والأصولي والعقائدي في البحث عن إجابة ثقافية للغز الوجود.

كاتب سعودي

محمد العباس