رواد النهضة العربية ـ ظلال التاريخ المثقف العربي بين الإرتهان للنموذج والإرتهان للواقع

جمعة, 2015-02-20 15:56

يُنظر للنهضة العربية، وسياقات نشأتها بوصفها نتاج ذوات تواضعت السّرديات التّاريخية، وبوجه خاص المقررات المدرسية على وصفهم بمثقفي، أو رواد «عصر النهضة»، نظراً لدورهم في النهضة العربية التي يؤرّخ لها بحملة نابليون بونابرت على مصر، وبلاد الشام. 
ولعل السرديات المدرسية، أو المقررات المدرسية تمثل النموذج الأمثل لاختبار هذه المقولة، لكونها نافذة على الثّقافة تكاد تتفوق على الكتب، فهي صياغة شبه رسمية لما تريد النخبة (السلطة) أن تكرسه في أذهان الأجيال، والناشئة على حد تعبير بلاوت (المركزية الأوروبية، ص 22). وبما أن النهضة عبارة عن حركة ثقافية تشمل كافة النواحي العلمية والفنية والأدبية، ومسالك أخرى، يفترض بها مجتمعة أن تضطلع بتحولٍ يطال البنى العميقة للتكوين الثّقافي والحضاري لمجموعة سكانية، تمثل في تكوينها أمة تبعاً لمفاهيم علم الاجتماع السّياسي. 
تحدد النهضة إجرائياً بأنها فعل تغيير يهدف إلى تبديد قيم، وأنساق الانكفاء، والغياب لمعنى الوعي بالأنا بسبب حالة الانغلاق، والضمور لبنى حضارية كانت قائمة، أو توقفت، أو تجمدت بفعل عوامل متعددة، فالنهضة في معناها البسيط نسق لاسترجاع نموذج حضاري، وحركة إحياء ينهض بها أفراد في سياق أشمل، وهي مرحلة ينبغي أن تفضي إلى خلق كيان سياسي، أو ثقافي حضاري متماسك، يتمثل بنموذج الدولة القوية. وعلى الرغم من وجود عدة عوامل للنهضة، كالمناخ السّياسي، وظهور الطّباعة والصحافة والتثاقف مع الآخر، غير أن المثقف يمثل مركز الفعل النهضوي، ومع ذلك، فإن المسلك الحقيقي لقراءة التاريخ في ما يتعلق بالنهضة العربية، ينبغي أن يتم عبر الاتكاء على منظور ارتجاعي متصل بالحاضر، بحيث ينظر لنتائج، ومحصلات ما أنجز، باعتباره سيرورة، وفعل إنجاز مستمر، بعيداً عن منظور المؤسسة التي أوجدت السّردية التاريخية، والتي انبثقت بفعل الترابط العضوي بين المؤسسة والمثقف، ولهذا ينبغي الانفكاك الكامل عن سردية المؤسسة الرسمية بمثقفيها المفترضين، وهذا يتطلب مراجعة لشهادات ووقائع التّاريخ، وسردياته، ولا سيما في ما يتعلق بتحقق النهضة التي نتجت بفعل هؤلاء النهضويين الذين ينبغي أن يعاد تقييم أدوارهم، باعتبارهم مثقفي عصر النهضة، إذ هم أقرب إلى المتعلمين، أو السياسيين، وذلك لانتفاء مفاهيمية وإجرائية دور المثقف الحقيقي، تبعاً لعدة عوامل، وهذا يعني بالمحصلة عدم اكتمال المشروع النهضوي، أو انحرافه عن مساره. 
تذهب معظم الدراسات، وكتب التاريخ إلى الإتيان على أدوار كل من رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التّونسي، وبطرس البستاني، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، وجمال الدين الافغاني، ومحمد عبد الوهاب، وغيرهم في التّأسيس للنهضة العربية، وبذلك باتوا من وجهة نظر السردية المدرسية- رواداً ومثقفين اضطلعوا بالتأسيس للوعي العربي، ولكن إلى مدى تنطبق مواصفات المثقف على هذه الأسماء، ولا سيما من حيث الأسس المعرفية، بالتجاور مع العلاقات التي تحكم ثنائية المثقف، والسلطة، أو المؤسسة، بتمظهراتها كالدولة والطائفة والمرجعية الدينية والقوى الاستعمارية، وطبعاً سلطة الذات والأهواء والمصالح الشخصية ؟ 
ما من شك في أن الاطلاع على أدوار المثقفين اليهود، ودورهم الحيوي في الثقافة الغربية، والذي أسهم بطريقة أو بأخرى في نجاح المشروع الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، يذهب بنا إلى قراءة مقارنة ومتفحصة وناقدة لمآلات النهضة العربية التي فشلت في خلق نماذج لدول حقيقية، ولعل هذا يعود إلى خلل تمثل بنسق مثقفي المؤسسة، مما أوجد حالة سلطوية تعيد إنتاج نفسها، أفضت إلى الواقع المتردي الذي نعانيه في العديد من الدول العربية نتيجة غياب مثقفين حقيقيين، مما يعني فساد العقل، وعدم القدرة على تجاوز الأزمة الحضارية. 
لابد لنا من تتبع مفهوم المثقف معرفياً بهدف الوصول إلى الفرضية التي تتغيا اختبار تحقق مفهوم المثقف في ما يتعلق برجالات عصر النهضة، من حيث خاصية الحرية، وعدم الارتهان لمرجعيات دينية أو عرقية أو سياسية، أو أي أدوار تتصل بمهامهم في سياق مؤسساتي أو سياسي، فالمثقف هو كيان فردي، كما يقول محمد عابد الجابري، ولهذا لابد من اللجوء إلى إقامة فروق بين مفهوم المثقف، وما عداه من أدوار كالمتعلم، والمتنور والسياسي.. والذين تهيّأت لهم الظروف لقيادة حركة تعليمية، أو تحديثية في إطار السياق السّلطوي القائم على توظيف قيم التعليم والتحديث لتكريس الهيمنة والسلطة، أو للإبقاء على تفوقها. 
هذا الافتراض يذهب إلى مناقشة النهضة العربية من حيث كونها كانت فعلاً مبتوراً، ومشوهاً نظراً لانهدام دور المثقف الرسولي، الذي يتحدد دوره بالدفاع عن القيم الثابتة، من دون أن ينتظر الأجر أو يحصل على هبة، ناهيك عن قدرته على خرق المنجز، والسّعي لإحداث انقلاب عبر هدم عوامل التخلف والجهل الذي نتج بفعل هيمنة السّلطة التي استشعرت دنو أجلها بعد استنفاد واستهلاك أدواتها التي كفلت لها البقاء في زمن كان يخلو من القيم المعرفية والحضارية والثقافية على حساب تكريس قيم عسكرية، أو إقطاعية، أو أنماط من التفكير الديني، أو الاقتصادي الذي يضمن بقاءها، فتحولات العصر، وبروز قوى جديدة تحظى بأدوات حديثة، يستدعي تحولاً في النمط والسّلوك والممارسة، وهذا يهدد بقاء المؤسسة (السلطة) التي لجأت بدورها إلى تبني قيم تحديثية عبر أداة (المثقف) الذي ساهم بخلق المشروع النهضوي (الزائف) الذي يدعم بقاء المؤسسة التي كانت بحاجة للتحديث بوصفه شرطاً للبقاء، والارتقاء، وفي الآن ذاته، الحرص على عدم خلق عوامل، يمكن أن تهدد أو تقوض المؤسسة السلطوية، و(مفهوم المؤسسة هنا لا يعني كياناً سياسياً فحسب) إنما يشمل المؤسسة الدينية والاستعمارية والقبلية والعائلية والطائفية، وما إلى ذلك من مرجعيات يرتهن المثقف لها، وهذا يستوجب بالضرورة نشوء علاقة بين المثقف والسلطة، بحيث تهيمن الثانية على الأول. 
وهكذا، فالمشروع التحديثي عند ارتهانه للمستقبل بحكم التّطور التاريخي، سوف يفضي إلى أزمة تتمثل بامتلاك المعرفة المجتزأة، بناء على حاجات، ومتطلبات المؤسسة، وهذا يمثل نسقاً مكرراً، ونموذجا تتبناه السلطة، رغم تبدل القائمين عليها، غير أن النسق يبقى قائماً، بل يعيد إنتاج نفسه، كما في أيامنا هذه. 
إن النظرة المثالية تقتضي من المثقف أن ينخلع من الجذور التي تلتصق بالمشروع المؤسساتي، ويقيم حدوداً فاصلة بين القيم التي ينحاز لها، وبين الرؤى المؤسسية التي تحاول الإفادة من المتعلم، أو المثقف في تمكين قواعدها، وتحقيق مشاريعها بهدف صون سلطة فردية، أو نسق سلطوي جمعي، وبذلك ينبغي أن نتساءل عن دور رواد عصر النهضة من حيث استجابتهم لمعيارية المثقف الرسولي، الذي يتوجب أن يكون مخلصاً لقيم عليا، ولدوره الحضاري وبوجه خاص في الفترات القلقة من التاريخ، وهذا يتأتى باتخاذ موقع الرفض للمؤسسة والسلطة باختلاف مظاهرها، مما أفضى أحياناً إلى نبذه وتصفيته وإقصائه. وهكذا يبقى التاريخ هو الملاذ القادر على إمدادنا بالتصور الحقيقي لأنساق مثقفي عصر النهضة.
في ظني أنه يتوجب علينا مساءلة وتقصي سردية التاريخ من ناحية جهود رواد عصر النهضة، وصولاً إلى التحقق من الفرضية التي ترى أن النهضة العربية كانت مبتورة، وغير منجزة لكون الوعي بالعروبة لم ينجز، ولأن الهوية العربية لم تكن قد تبلورت بعد في سياق مشروع واضح الملامح، فأغلب نزعات التنوير العربي (مجازاً) لم تكن عربية خالصة، كون الوعي القومي لم ينضج بالشكل الكافي، إضافة إلى أن المشروع النهضوي كان في مجمله يخضع لمؤثرات وظلال قوى أخرى مهيمنة، ونعني المؤسسات السلطوية كالدولة العثمانية، والقوى الاستعمارية، أو سلطة الدولة، والحاكم، أو المصالح العشائرية والعائلية والقبلية والطائفة الدينية التي كانت تلقي بظلالها على هذه الحركات، ومن يقودها، وهذا ما يكاد ينطبق على عصرنا الحالي وقع الحافر على الحافر، مما يعني أن الوضع العربي لم يفارق هذا النسق، ونتيجة لهذا فإن المثقف العربي ما زال يمارس دوره في سياق المؤسسة السلطوية، الدولة والنظام والقوى الكبرى، وكذلك القبيلة والطائفة الدينية والعرقية وما إلى ذلك، وهذا يفضي بنا إلى نتيجة قوامها أن المثقف العربي (مفهوماً، وإجراءً) لم يتبلور، وهذا ما يعني استمرار نسق المثقف، أو المتعلم، أو التقني المرتبط عضوياً بالسلطة أو المؤسسة، ومن هنا فإننا قد أخذنا بمظاهر النهضة، ولكن لم تتحقق النهضة.

كاتب فلسطيني ـ الأردن

رامي أبو شهاب