المعارك الثقافية لسعيد يقطين

أربعاء, 2015-03-11 13:20

أينما وليت وجهك في وطننا العربي تجد الحرب مستعرة. الإرهابي يحارب الإرهابي، والطائفي، باسم الطائفة، يصارع الطائفي الآخر. والدولة تناوش الدولة، والحزب ينشق عن الحزب، والفنان يشاكس الفنان، والكاتب «يكتب» عن الكاتب. والكاتب حين يكتب هنا، فليس بمعنى الكتابة، أي الممارسة الحضارية، أو التعبير عن الوعي الثقافي. إن فعل يكتب هنا يختزل كل أفعال العنف الذي يشهده المجتمع العربي. إنه مرادف ليحارب ويصارع ويناوش، وينشق ويشاكس، وهل لنا أن نستعين بفقه العربية للثعالبي لجرد كل الأفعال التي تدور في هذا المحور الدلالي؟ مستحيل.. فالحروب القديمة، وشبكاتها الدلالية التي حاول الثعالبي رصدها في أواخر القرن الرابع الهجري، تقصر عن نظيرتها التي تشكلت في العربية الحديثة، بل أن ما برز منها منذ احتلال العراق إلى اليوم يوازي كل ما صنع من مفردات في العربية خلال قرون. واللغة وليدة الواقع.
فما الفرق بين «الوحدة» التي كانت شعارا تنضم إليه «الحرية»، وكلمة «الاتحاد» التي كانت تجمع الوطنيين من السياسيين والصحافيين والكتاب والنقابيين، في منتصف القرن الماضي، وبين ممارسات «الحرب» التي تتعدد الآن مدلولاتها، وهي تخاض ضد كل شيء، وباسم كل شيء؟ ما الفرق بين حوثي يحارب قاعديا، وداعشي يحارب نظاما ومعارضة. ومعارضة تحارب الدواعش والنظام؟ وميليشيات تحارب ميليشيات، ولا فرق بينهما إلا في الكلمات التي يرفعها كل منهم في خوض هذه الحروب؟ ما الفرق بين أن ننشق ونتحد اليوم، لننشق غدا، أو بعد غد؟ ما الفرق بين أن نكتب اليوم، شيئا ونتنكر له غدا، ونتبنى أفكارا أخرى؟ أينك أيها العسكري القديم، لتبحث لنا في «الفروق اللغوية» العربية؟ أم أن للعربية اليوم أسرارها وفروقاتها التي يعجز عنها الرصد والاستقصاء؟
كانت المعارك الثقافية والأدبية والقديمة حول أفكار وتصورات وبين اتجاهات. ورغم ما يعتور لغات تلك المعارك من سخرية، كنا نعجب بها، بما فيها من تلوين في الأساليب، وتنويع في بناء الجمل، كانت ثمة أفكار وحجج مبنية على منطق معين للأشياء. كتابات العقاد وردود الرافعي، وسجالات طه حسين، رغم ضراوتها أحيانا كانت تصب في اتجاه بلورة تصورات ورؤى جديدة. 
منذ انهيار الجدار، سقطت ورقة التوت، فجف القلم، ورفعت الصحائف، ولم تبق سوى الصحف تنشر وقائع الجرائم وآثار الحروب بين الطوائف والأحزاب والجماعات والجمعيات. ومع الربيع العربي الذي جاء لمحاربة الفساد بدل أن يصطف الجميع حول هذه الحرب للتساؤل عن الحال والمآل، قام الجميع يحاربه باسم الفساد. فعمت الحروب، وتناسلت المعارك الثقافية، ليس حول أفكار وتصورات، ولكن حول المواقع. فالكل يجري لهدف محدد: هو السيطرة على موقع، أو بناء موقع، أو استرجاع موقع. وليس المراد هنا بالمواقع تلك الافتراضية، فهذه صارت فضاء لكل أحد من الناس. ولعل استسهال الحصول على «موقع» في الواقع الافتراضي، جر في الأذهان عدم استحالة أن يكون للمرء موقع، كيفما كان نوعه، في الواقع «الحقيقي». فكانت الحروب المواقعية، من أجل احتلال فضاء على الأرض، أو على صفحة جريدة سيارة، أو موقع للتواصل الاجتماعي.
حين فكر ريجيه دوبريه في الوسائطيات، كان وراءه سؤال كبير: كيف تتحول الفكرة إلى واقع؟ وتتجسد قولة «لا إله إلا الله»، مثلا، في فضاء المسجد باعتباره مؤسسة لتطوير الفكر، وجمع الناس وتأطيرهم. ألم يحن الوقت لتأسيس علم وليكن «السوطيات»، ويكون منطلقه السؤال: هل يكفي أن نخلق فضاء، أو نحتل موقعا لنخلق أفكارا؟ ليست السوطيات، كما نتصورها غير حرب المواقع. وبما أن هذه المواقع رجراجة ومتحركة لأن السوط كما يمكن أن يصيب «الآخر»، يمكن أن يلتف على «الذات»، فهو لا يمكن أن يخلق أفكارا، ولكن سياطا أخرى تظل تلتف على الذوات والآخرين، لأن شعارها البنيوي: عليّ وعلى أعدائي. إنها بكلمة لا يمكن أن تنتج أفكارا، ولكن سياطا تلتف على الرقاب. وهذا واقع الحال، وسؤال المآل.
بدون الانطلاق من عملية التفكير والسؤال الموضوعي حول الواقع، لا يمكننا خلق الوسائط التي يمكن أن تحوله، من محول دلالي إلى آخر نقيض. وتظل حالة اللامعنى هي السائدة، فإذا الطريق مسدود، وليس أمامنا غير الجدار. وتظل الحلقة مفرغة. وإذا عدنا إلى الوسائطيات، فإن خلق الأفكار، وتجديد التصورات لا يمكن أن يتأسس على «المعارك»ّ المختلفة التي تطحن القرون. المعارك الثقافية الحقيقية تفكير وسؤال وتواصل. وأي تفكير أو سؤال بدون الحوار مع الآخر، والقبول به، والاعتراف به، لا يمكن إلا أن يجعل عملية التفكير أحادية البعد، وأحادية التشخيص، عديمة الجدوى والأفق. 
إن مختلف المعارك التي يعرفها الوطن العربي وليدة التفكير في السيطرة، والهيمنة على الآخر. وفي كل مرة يجد الآخر فيها نفسه، عاجزا عن البقاء تحت تلك الهيمنة، يلجأ إلى سلوك المسلك الذي يسير عليه غيره، فنجد أنفسنا في الدوامة نفسها: إعادة إنتاج المواقع. وحين تهيمن هذه الذهنية، فهي تخلق نقيضها. وتتناسل المعارك. فكيف نغير الذهنية المواقعية ليصبح للأفكار موقعها في الصراع؟ هذا هو السؤال.

كاتب مغربي

سعيد يقطين