لا تزال أم عمرو تصر على السير بنا إلى حيث تريد، وتلك لعمري مشكلة، لكن المشكلة الأكبر هي أنها أي أم عمرو تصر على أن نكون شركاء لها في رحلتها بنا إلى المجهول، وذلك طبعا حتى لا تتمحل وحدها مسؤولية ما ينتظرنا هناك.
إن الإصرار على سوقنا قطيعا إلى حيث يردون يشغل كل فراغات الزمان والمكان وتتضاءل أمامه جسام الأمور وأمهات الأزمات حتى لا يبقى لنا مناص من الانقياد مستسلمين خانعين. لا يذكرني العصف الممارس علينا لآن لنسير هكذا، إلا بالعصف الذي تقول الأسطورة إن أحمد ول الديد مارسه على رأل النعام "اظليم" ظنا منه أنه من الإبل حتى أجبره على السير فيها باستسلام وكأنه فصيل لإحدى النوق، إن أم عمرو ـ وهي على حمارها تفترش أنواع الزاد وقد عزمت على ما عزمت عليه ـ لا تزيد على أن تتجلى لرعاتها وهم يسيجون القطيع بإحكام حتى لا يبقى منفذ لشرود، يهشون عليه بعصي الخوف ويقعقعون له أواني الطمع ويلسعون الأوابي منه بألسنتهم الحداد المذربة، وكأن أم عمرو قد أوحت إليهم بالتمنطق والكشف عن ساق ليفهم الجميع أن لا مجال للتراجع ويقتنعوا بضرورة المسير وجرم القعود وأن القواعد مخلفون عليهم غضب أم عمرو وحمارها والفراش، هذا رغم أن الطريق مليء بالأودية المتصدعة التي تعوي فيها ذئاب الضنك والتصدع والملاريا والجهل،! رفقا بالقطيع يا أم عمرو! وازجري الرعاة ونفسك بقول ابن الونان في أرجوزته الشمقمقيته:
وكم بسوط البغي سقت سوقها....... سوق المعنف الذي لم يشفق
حتى غدت خوصا عجافا ضمرا.... أعناقها تشكو طويل العنق
مرثومة الأيدي شكت فرط الوجى... لكنها تشكو لغير مشفق
ربما أشارت عليك عصابة النفاق والارتزاق بطانة السوء والمنكر برأي هو ما أيقظ بداخلك عفاريت السلطة والتسلط وأنساك السلف الذي تركبين حماره وأصابك بحمى الحوار التي من أعراضها فيما يبدو كثرة الاهتزاز والارتجاف والهذيان،،،أي بلاء! صدق الشاعر حين قال :
وما كل ذي لب بمعطيك نصحه..... وما كل معط نصحه بلبيب
إن عمل عصابات الارتزاق كعمل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك، هكذا عصابات الارتزاق تُدلي ولي نعمتها بغرور حتى إذا ما هوى وعرفوا أن لا عودة له من تلك الهاوية تركوه ببرودة أعصاب وانقلبوا إلى من سيحل محله، إن اللوم ليس على هؤلاء فهؤلاء شياطين وهذا عملهم، إن اللوم على الغبي الذي تنطلي عليه حيلهم ويصدق نصحهم، إنهم بلاء المعوجين الذي يعيش بين أعينهم،،، لا يهمنا أمرهم الآن ما يهمنا هو أم عمرو والحمى التي أصابتها، ولأن حمى أم عمرو جاءت بالتزامن مع حميات يعاني منها المواطنون، فإننا أصبحنا أمام حميين: حمى المواطنين التي لا تصل إلى أم عمرو وبطانتها، وحمى أم عمرٍو، التي تعمل جاهدة لإصابة المواطنين بها، فأي الحميين أجدر بالعلاج؟
لاشك أن لنا موروثا شعبيا زاخرا، ومن موروثنا هذه الجملة التي ينبغي أن نمسح عنها الغبار ونجسمها ربما بشكل أم عمرو، وننصبها في ملتقى كرفور المطار وكرفور مدريد لتراها كل ذات جمجمة، الجملة هي : "راجل يبن حل أحل ما تبن راجل"، عظيم، ولما كنا نحن "راجل" أي أم عمرو، و"حل" أي الشعب، وأم عمرو، مصابة بحمى، والشعب مصاب بحميات، فعلينا أن نبادر بعلاج أم عمرو، لأنها هي الرجل الذي سيبني "حلة"، وهذا ما وعته حكومتنا الرشيدة عند الوهلة الأولى وعملت بمقتضاه، فتجاهلت حميات الشعب وسخرت كل طاقات البلد لعلاج حمى الحوار حمى أم عمرو، لأن أم عمرو هي فعلا الرجل الذي بنى "الحلة" وينبغي أن يستمر في بنائها، لقد بناها فعلا لدرجة أنه جاء بكل شيء حتى المطر، هذا ما قاله الوزير "الجديد" لأهل ولات في إطار تعداده للمنجزات العملاقة لفخامة أم عمرو، وإن رجلا من انجازاته المطر لأحق أن ينصب له تمثال في انبيكت لحواش وترمس وبرات والشامي وكرفور المطار، وأن يرسم له وشم لاصق على جباه الوزراء والوزيرات حتى لا يعدوا منجزات رجل غيره، هذا الوزير قال هذا رغم أنه يعرف المهمة التي أرسل إليها وهي شرح نتائج الأيام التشاورية التمهيدية للحوار، ولأن تلك الأيام بلا نتائج أراد معاليه أن يذكر بإنجازات الرئيس كبقية الوزراء، وإن أضاف هو "المطر" فلأنه جديد يريد أن يضيف جديدا يضاف لدفتر الأرقام القياسية في "التصفاك" ك " الهدية المتواضعة" و "اطفيل احمد" و "اشبه من بوش" إلى آخره.
إذا هذا هو السبب لهذه الضجة الكبيرة والحملة الانتخابية السابقة لأوانها والتجاهل المقصود لما يصيب الوطن من أمراض وتهديد بسنة تعليم بيضاء، إذ لا تدابير لمكافحة البعوض ولردم البرك والمستنقعات ولتلقيح الحيوانات ولضمان الافتتاح الدراسي في وقته المؤجل، لكن كل هذا لا يهم إذا ما شفيت أم عمرو من حمى الحوار، وتوصلت منه إلى ما تريد: عدم النزول عن ظهر الحمار، ولو أنها توجهت به إلى حيث مات المرحوم فهد ـ للتزود بالوقود طبعا ـ فإننا لن نتذكر معاوية الخير ولا قول الشاعر: إذا ذهب الحمار....، ولكن نقول عودي يا أم عمرو، واخلدي على رؤوسنا إن شئت، فإننا لم نأت بك أصلا حتى نتدخل في ذهابك، فأنت من جئت بنفسك ومن سترحلين بنفسك متى شئت أو متى شاء جنرال آخر بقربك، فعودي واخلدي وارفعينا إلى الثريا إن استطعت، وإن لم تستطيعي فما عليك، فضعاف الخيل لا تستطيع حمل سُروجها كما يُقال