د. دداه محمد الأمين الهادي
سنوات والرصاص يدوي في سوريا دون حسم معركتها المصيرية، ولتوغل سوريا في الالتحاق بالعراق الدامي، بل لتتجاوزه نارا ودمارا، ولتمتد الأيادي الآثمة ذاتها، التي تفننت في صناعة الموت والفتنة، واضعة اليمن الحبيب على خط المواجهة، تلك المواجهة التي ستدوم هي الأخرى، ربما لدهر الدهارير.
محنة اليمن جعلت الدول الداعمة لمحور هادي تشتري مشاركة فقراء العرب، الذين قيل قديما إنهم انضموا للجامعة العربية بحثا عن فائض الدنانير والدراهم، لكن دراهم الخليج غالية، فأحيانا يلزمون الدول العربية الفقيرة-جزر القمر، وجيبوتي، والصومال، وموريتانيا- بالتصويت على قرار دولي جائر، يتعلق بتدخل عسكري بلا معنى، وأحيانا يرفعون سقف المطالب، ليفرضوا على الفقراء أن يكونوا صفوفا أمامية في حروب لا يعرفون أسبابها الإيديولوجية، ولا نتائج شررها المتطاير.
ولعل ما شاع مؤخرا في إعلامنا المحلي عن مشاركة بواسلنا في حرب اليمن خير دليل على أن السعودية، والكويت لا يتصدقون لسواد عيون العرب، بل يريدون المشاركة الفاعلة في حروبهم الشخصية، تلك الحروب الطائشة، التي لا يقدرون حجمها الحقيقي، فإذا كانت دولاراتهم وفيرة، وحساباتهم مكدسة بالمال عقارات ومنقولات و سيولة، فإن الحلف الثاني ليس واهيا، وليس بيت العنكبوت، ولا نسج دودة قز، فمن خلف أنصار الله وجماعة الحوثي وعلي عبد الله صالح تقف إيران وروسيا، والصين ولو بشكل غير مباشر.
وبالتالي فالحروب الخليجية الوهابية سترتطم حتما بصخرة الدب الروسي، و ما يخشى على الخلايجة أن يكونوا أضحية في نهاية المطاف، لسلاح روسي ظل مهابا حتى من الأمريكان أنفسهم، فالروس على ما يبدو مصممون على المضي قدما في دعم حلفائهم في الشرق الأوسط، ولو كانت الأمور لتتهاوى بسرعة لتهاوى الجيش السوري، الذي يقاتل منذ أعوام، وكلما زاد الخليج، ووريث الإمبراطورية العثمانية تركيا مستوى دعم الميليشيات المسلحة، والجيوش الحرة، زادت إيران من تدخلها، وزادت روسيا مستوى الاستنفار الأمني في المنطقة، وآخر تدخلات روسيا هو تدخلها الراهن، الذي يبدو أنه جاء ليعيد الكفة السورية إلى نصاب روسي، يعيد للاتحاد السوفيتي شيئا من أمجاده الضائعة.
لن تكون اليمن بمعزل عن التدخل الروسي، بحجة وجود داعشية من نوع ما، ولن تعيد الجيوش الخليجية، وتوابعها اليمن لعهد صالح، ولا لعهد بلقيس، بل ستتهاوى الحمم البركانية ليختنق بها العربي أينما وجد، وفي النهاية سيتمنى العربي لو ظلت القضية في حدود بيزنطيات النقاش الدائر حول المد الشيعي، والجزر الوهابي.
السعودية يبدو أنها قررت جر موريتانيا إلى أصول تدعيها، أو تثبت لها عند بعض المؤرخين، لكن هذه الأصول ستزيد حدة الاحتقان السياسي في موريتانيا، وتصب الزيت على النار، ليتم إحراج النظام الموريتاني بتقديمه للجيش الوطني قرابين لدولارات الخليج، الثابت أنها لا تنال عفوا وعفوية.
النظام الموريتاني الذي غرق في أتون الديكتاتورية في وضعية لا يحسد عليها حاليا، فالشيوخ شاخوا حد الخرف، بل تجاوزوه، والحريات متراجعة بعد القبض على مجموعة وسم البلد ينزف، والرئاسيات الأخيرة ظلت مرفوعة البطلان بأن ... وإن ...، والتعديل الدستوري لمأمورية جديدة يضيق عليه الوقت، والمعارضة المعترف بها خارجيا تقاطع كل ما هو عزيزي ونظامي، وأحزاب الكرطابل الداعمة ليست لديها السيولة ليأكل رؤساؤها قطعة خبز يابس، أو ليضعوا قديدا على الأرز الحافي، وجمع المناضلين إن لم تكن حزبا حقيقيا يحتاج إلى سيولة، والسيولة تحتاجها اسنيم، وتحتاجها هيئة الرحمة، ويحتاجها المقامرون في الكازينوهات الايطالية والمغربية، وكل شيء يحتاجها إلا الشعب، رحم الله الشعب ... رحم الله الشعب.
وهذه فرصة لتصحيح اسم هيئتنا الحبيبة، فقد كتبوا عليها "هيئة الرحمة: هيئة خيرية ذات أهداف الإنسانية والاجتماعية"، والصحيح هو "هيئة الرحمة ذات الأهداف الإنسانية والاجتماعية"، والأصح هو "هيئة النقمة ذات الأهداف الشخصية".
لقد زج بالدموقراطية في قفص، وتم تسييجه بالمسامير المكهربة الشائكة، ولأول مرة في تاريخ موريتانيا تسد جميع المنافذ لمصالح شخصية، فنموذج "أبناء القذافي" صار حاضرا، لفعالية شباب القائد في المشهد المالي والسياسي، وليس سرا أن البلد ذهبت هباء إما في أحد من وسط القائد، وإما في الطرابلسية، وصار من يتكلم من الصحافة يتم الاعتداء عليه إما إيعازا من نافذ، وإما نخوة وحمية من بلطجية النظام وأدعيائه.
والتعيينات في البلد شطرنج، نفس الأوجه .. نفس الأشخاص .. نفس الدائرة، أو هي "ظامت" بعرة تحل محل عود، وعود يحل محل بعرة، ومن يغيب سرعان ما يعود في اللعبة التالية إلا أنهم أحيانا يضيفون في ظامت جديدا لا يضيفه نظامنا.
وصرت تسمع الصحافي الفلاني هرب، أعطى ساقه للريح، تلك هي الديموقراطية، وآخرها يبدو أن النظام قرر مواجهة المدونين.
لما سبق يبدو الحوار ضروريا لنجاة سمعة النظام، أما نجاة حياته فلا يلوح في الأفق ما سيزعزعها، خاصة بعد تساقط جنرالات الجيش في مصيدة التقاعد، وتوجههم –حسب الشائع- لإنشاء أحزاب سياسية، ستكون طريقهم المعبد ليصلوا مطار الفقر بأمان، كما وصله رجال الأعمال قبلهم، حين ضخوا سيولتهم في التطبيل والتزلف.
وليس خافيا أن التعيين لا يزال بالوساطة والقبيلة والتطبيل و "الحب"، أما الكفاءة والنزاهة والعلم، ففي أفريقيا لا ضرورة لها.
إن الشعب الموريتاني يساق إلى مقصلته حافيا عاريا جائعا خائفا، ضامر البطن، بارز الوجنتين، دامي الكتفين، كأنه أشباح من هياكل عظمية، تنهض لتقتل خوفا عابري السبيل.
ولا شك أن الغربيين يدركون بقوة اليوم حجم الكارثة، التي وضعنا فيها اتفاق داكار غير المصون، والتي سيضعنا فيها الحوار المرتقب، ومن يساعد موريتانيا على البقاء في دائرة هذا النظام إنما يخاف الموت بطشا على يد النظام، وإما ليس له ضمير ولا وازع ديني ولا أخلاقي، ولا أستطيع القول أنه يحرص على مصالحه الضيقة، فقد أثبت هذا النظام أنه لا مصالح معه، وأن المصلحة الوحيدة التي يرجوها منه المتوددون له هي السلامة من أذاه.
ويعرف النظام وأنصاره أن حواره الأخير كان بمثابة حفلة عرس موريتاني بصالة حفلات، فمعظم من حضروه وضعوا نصب أعينهم المائدة، هكذا سمعنا .. هكذا نبض الشارع، ولم نسأل طبعا عن الضمير، ولا الوازع الديني، فقد قال التشارلي اتشابلن: "الجوع لا ضمير له"، وقال محمد الرطيان: "الجوع يبتكر أخلاقه"، والوطن يعاني الجوع والفقر، وقد صنفه المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية في خانة أجوع دولة –كما رأينا- إلى جانب الصومال وجيبوتي.
حفظ الله موريتانيا من نظامها وحواره.