لم يَعدْ خافيا على النّاقد المتمرس الذي يتتبع قضايا الرّواية وتحولاتها البنائية والرؤيوية، منذُ نشأتها الفنيّة حتى وصولها إلى مرحلة مميزة من النضوج المعرفي والجمالي؛ أقول: لم يعدْ خافيا عليه إنّها مُنذُ مطلع العصر الصناعي من القرن العشرين بدأتْ تستقر على نمط من الاتجاه الإنتاجي المدعوم بدرجة كتابية واعية، تترصد أهم التحولات في الذّاكرة السّردية المواكبة لإرهاصات الحداثة وما بعدها، بوصف الرّواية أحد النتاجات المعرفيّة للجمال الأدبي المعبرة عن سرديات العصر الحديث، مما تمظهر على شكل تجاوب سريع مع مقصديات إنتاجية مدركة لأهمية خرق السّائد واليقيني، بابتكار أنماط مغايرة تتناسب ومركزية الاندفاع بقوة نحو المفاهيم التجديدية التي رسختْها المعاصرةُ في ثقافة المجتمعات ما بعد الصناعية، المجتمعات التي كان لها دورٌ واسع في ترسيخ هذه المقصديات في ذاكرة النّصوص الرّوائية المعاصرة للتحولات المعرفيّة الكبرى في الإبداع.
وإذا كان الجزءُ الأعظم من الأعمال الرّوائية قد انساق معرفيا ومفاهيميا ضمن ما يمكن توصيفه، بحسب طروحات فلسفة ما بعد الحداثة بــ «السّرديات الكبرى» حيث الانغلاق على رصد أيديولوجيات اجتماعية مثل، التقدم والتنوير والثورة والتحرر والعدالة وغيرها، وقد تمثل ذلك في عوالم كبار الروائيين المؤسسين مثل، تولستوي وبلزاك وهوغو….الخ، في الوقت الذي كان فيه الجزءُ الآخر مبهورا بيوتوبيا الذات والانهمام بها والسّعي الحثيث لإثبات زمن «السّرديات الصغرى» حيث التمتع بفردية السّلعة وتأمين جودة عالية للحياة والانعزال بمنأى عن الجماعات، بحثا عن خصوصية نرجسية في الأداء الحياتي، وهو مسعى حداثي نضج على يد كبار الروائيين ممن تبنوا مرحلة التجديد والمغايرة مثل، دستويفسكي وكافكا وجيمس جويس ومارسيل بروست وأندريه جيد….الخ، فإنّنا يمكن أنْ نشخص جزءاً نزراً من هذه الأعمال يندرج تحت ما يمكن تسميته بــ «السّرديات المُصْطَنَعة» السّرديات التي خضعتْ لمدار تنسيق المكونات المصطنعة عن النّسخة الأصل ونقلها إلى النّسخة المنتجة، وقد حاولتْ القفز مفارقة الكثير مما سبقها من نتاج، مع أنّها انطلقتْ منه؛ مؤسسة بذلك ذاكرتها الخاصة في بناء مقولاتها وتفوهاتها لتغادر الواقعية المباشرة والحدث التأريخي وأدلجة البطل المطلق بصوره الثقافية كلها، ولتبني على وفق ذلك تقاناتها الخاصة مع وعيها بمفاهيم راسخة في أرض الرّواية الغربية، والموروث القديم والواقع المعاصر والتحولات الفكرية الكبرى والتغيرات السّياسية ورمزية الحدث ودلالته، التي حولتْ الفرد/ برجوازي الرّواية إلى مجرد خرافة تتشكك أزاءها الميتاحكايات ــ السّرديات الكبرى بحسب ليوتارــ الأمر الذي يمكن تشخيصه في رواية فنتازية مثل «The Lord of the Rings» لتولكين والسّينما الافتراضية التي أنتجت بإشراف مباشر من جان بودريار، ممثلة بفيلم «matrix» وبعض أعمال المخرجين الشهيرين ستيفن سبيلبيرغ وكوبولا مخرج فيلم «القيامة الآن» وعالم ديزني لاند، وأعمال بورخس والتناول الأسطوري للدين في روايات دان براون….الخ، فصار ضروريا العودة إلى ما رسختْه الكولينيالية وما أثمرتْ عنها من نتائج لما بعد الكولينيالية، وغدا النّصُ مفتونا بسرد حكايته للوصول إلى ما وراء الذاكرة الإنسانية وما وراء الرّواية، ولم يكتفِ بذلك فقط، بل راح يبحث عن واقع جديد مغاير كسرا للقناعات ويقينيات التلقي، فسعى بذلك لصناعة واقعه الافتراضي من خلال إعادة صوغ الواقع المعيش لغرض إلغائه، محققا بذلك نمطا من التبادل المستحيل مع السّرديات الكلاسيكية جميعا، حيث العودة إلى الذّاكرة الثقافية للرواية محاولا تصنيعها من جديد مذيبا ضمن ذلك أنماطا راسخة من الحكاية الشعبية والخرافة والسّيرة وهويّة الأفراد وعنف الحرب وتأريخ الفئات المقموعة، لإنتاج «مسوّدة» من أطراس مغايرة/ مضادة تقود الوعي المبدع نحو آليات جديدة، وتؤسس لدرجة كتابية مغايرة تتناسب مع الحساسية الجديدة لسرديات ما بعد الحداثة التي تقمصتْ شيفرات التغاير الإجناسية المتشكلة بتأثير التجدد الهائل في إنتاج المنظومة المعرفية العالمية.
من هنا يمكننا البوح بأنّ هذه المقالة معنية بتقصي قضية معرفيّة، بدأتْ تتبين في نماذج روائية معاصرة، أخذتْ على عاتقها أهمية الإبداع والنزوع نحو نمط سردي خاص بإنتاج المعرفة، فضلا عن التخييل ولذة القراءة، محاولة منها بالتعبيرعن المعاصرة ومواكبة الانتقالات العميقة في التفكير الحضاري، الذي يسعى تحت هيمنة العالمية إلى ترسيخ مشروع ثقافة الـ«ما بعد» المنتجة بتأثير ما بعد صناعية المجتمعات، والثقافة المؤثرة التي تثير الشك أمام اليقينيات والثوابت جميعا، بمعنى أنّ «الرّواية المعاصرة» استطاعت بسبب هذه التحولات الكبرى ـــ بنائيا ورؤيا ومعرفيا ـــ الوصول إلى مرحلة ما بعد الحداثة بوصفها مرحلة تأريخية معبرة عن سمات فكرية خاصة، والتحول جماليا نحو مرحلة ما بعد الحداثية بوصفها نمطا معرفيا جديدا يتقصد رفض السّائد والمقنن والرتيب، والعمل على اصطناع عالم خيالي مغاير في قوانينه التي انتقلت من الواقع إلى ما ــ فوق الواقع؛ بسبب أفول العلاقة بين الدال والمدلول، لأنّ نمط الحياة المعاصر والأجهزة التكنولوجية والإعلام وعوالم السينما والتلفاز وغيرها، عملتْ جميعا على مشروعية «اختفاء الواقع» وتكسير قوانينه المباشرة أو كما يرى بودريار، ذوبان للتلفاز في الحياة وذوبان للحياة في التلفاز، مما حفز الكثير من الفنون، ومنها الرّواية على الانتقال إلى فعالية جديدة تغدو السوسيولوجية إثرها مجرد صورة مقدمة وليستْ السوسيولوجية كما هي بقوانينها المعهودة، صورة أخرى متولدة عن صور مغايرة مذابة في ذاكرة المؤلف تقترب تارة من الواقع المعيش وتبتعد تارات كثيرة حتى يتداعى في ضوء ذلك الاعتيادي والسّائد حد الانمحاء النهائي لغرض إعادة صوغ الواقع غرضا بمحيه.
وعليه فإنّ تدقيق النظر في مقولات السّرديات المُصطنعة وذاكرة إنتاجها المفترضة، لا يعني القفز على المراحل السّابقة، بل يعني بداية كتابية جديدة نظرتْ إلى متغيرات العصر بوعي مضاعف محاولة منها للخروج عن المألوف بتنصيص جديد يعيد صوغ ذاكرة الذّات والمجتمع والواقع والتأريخ والخيال والخرافة، ويحطم التقانات ويعيد بناءها متأثرا بالبنى الوهمية واليوتوبية، الأمر الذي يمكن رصده إجرائيا في الأعمال الرّوائية العربيّة، من خلال رصد الزمن المستعاد من تأريخ المقموعين وصناعة الخرافة وافتراض الخيال والبحث في ذاكرة الأطراس في ما وراء الحكاية والسرد، في عوالم كتّاب معاصرين مثل جمال الغيطاني ومحمد برادة وجابر خليفة جابر ورؤوف مسعد وعباس عبد جاسم ومحمد خضير وطه حامد الشبيب وغيرهم، ولكنْ تبقى الإعاقة الكبرى التي تواجها هذه السّرديات المعاصرة في أدبنا الحديث والمأزق المحيط بالروائيين، هو «سمة القطيعة» بين الظروف المعرفيّة والسّوسيولوجية التي أنتجتْ مثل هذه السّرديات وبين النّصوص السّردية نفسها، ففي المجتمعات ما بعد الصناعية في العالم الغربي نضجتْ المعرفة فتحولتْ بعدها إلى هذه العوالم الافتراضية بوصفها نتيجة طبيعية لما بعد الحداثة، أما لدينا ـــ أعني في ثقافتنا العربيّة ـــ فلم يتحقق ذلك؛ لأنّه تمَّ على مستوى الوعي الفردي فقط ــ ذهنية ورؤى المبدع ـــ ولم يرسخْ عن طريق المنظومة السّوسيولوجية المتحولة نحو الازدهار الصناعي والرقمي كونها تعيش نكوصا معرفيا واضحا، وهذا مكمن المأزق الذي لا يمكن التكهن بتحولاته المعرفيّة في الوقت الحاضر.
ناقد وأكاديمي من العراق
خالد علي ياس