كل يوم تتعزز لدي قناعة . وهي أن آلية التفكير لدى الجيل السياسي الصاعد بعيدة كل البعد عن نظرتنا التبسيطية للظواهر، فقد أخطأنا كثيرا في حق هؤلاء عندما اعتبرنا أنفسنا الكل في الكل، وأخطأنا كذلك في نظرتنا التقديرية للانعكاسات الإيجابية للفتوحات المعرفية المعاصرة، خاصة في مجال المعلوماتية والاتصال أي عالم ما بعد العولمة
. فقد خلقت هذه الثورة العلمية جيلا يستلهم عدة تجارب وعدة حقول معرفية وربما عدة استراتيجيات في ظرف وجيز وفي عمر ثقافي قياسي.... وهذا ما يجعل النظرة النمطية التي على أساسها نبني تصوراتنا، متهالكة بلغة الاقتصاديين.
ومن المعروف أن هذه النظرة النمطية تلغي الطابع الحركي للوجود وأكثر من ذلك تلغي نواميس الكون ومبادئ العقل البشري، تلغي دفاع الله الناس بعضهم ببعض، بلغة القرآن الكريم، وتلغي الصيرورة بلغة الفلاسفة.
كل هذا يجعلنا نرصد مفارقات كثيرة في واقعنا السياسي المليء بالتناقضات والمفتقر للتناغم الذي قد يكون ضروريا، خاصة إذا تعلق الأمر بجهاز مفهومي لخطاب سياسي أو لمشروع مجتمع بديل.
وربما تكون إكراهات عناد الواقع وإملاءات سقوط الايديولوجيا، والأخذ بسقط متاع العولمة..هي الآليات الحقيقية لتفكيربعض ساستنا، والذي تمثل الانتقائية نقطة إرتكازه الى درجة تجعل البعض لا يوازي بين الغايات والوسائل . ويغص الطرف عن المرجعيات التي عادة ما تمثل بوصلة السلوك.. فعندما تكون الحاجة ملحة نكون غائيين أكثر من ميكيافيل، بل ننظر لأشياء يقصر تفكير الاباحيين عن استعارة أدواتها، ولا تحتاج هذه المقاربة إلى كبير عناء لاسقاطها على واقعنا السياسي المتشرذم .
ولذلك فإنني لا أجد غضاضة في القول إن القوى السياسية التاريخية المعروفة في الإصطلاح الشعبي برموز الفسادوالمعروفة كذلك بعدائها للتغيير وشراستها تجاه الاجيال الصاعدة وتمسكها بالنظرة الاستاتيكية للواقع هي التي تمثل اليوم وبحق براديكما المعارضة، ويا أسفي على المعارضة عندما يجعل البعض منها مساحيق لتجاعيد وقسمات أقسم الزمن السياسي الرديء على تخليدها في تلك الوجوه السرمدية.
وربما تكون المفارقة الأكثر حدة وألما هي استعارة هذه المعارضة المزيفة والمختطفة للمعارضة التاريخية لجهاز مفهومي لاعلاقة لها به إطلاقا ولخطاب سياسي يقوم على الرؤية العدمية في كل المواقف، وكأني بها شبيهة الى حد بعيد بحصان العربة الذي علمته الأغلفة المنصوبة على عينيه أن لايرى إلاما يساق اليه....فكلما يحدث اليوم من تغيرات جوهرية في البلد وما تحمل من إصلاحات عميقة مبشرة للأغلبية الساحقة ومؤلمة لنفر تقاسم مقدرات البلد منذ عقود يقابل من طرف هؤلاء بنظرة نمساوية ،.
وقد يكون من الغباوة المفرطة أن نطلب من هذه المعارضة المختطفة أكثر من هذا فلاشيء من لاشيء حسب القواعد المنطقية لعلل الاشياء .. وإلا فكيف تعمينا الديماغوجيا عن إعادة البناء التي تشهدها موريتانيا اليوم؟
هناك ورشات اقتصادية كبرى في البلد .. هناك ديمقرطية تتفاعل معها مفردات الحياة .. هناك طبقة سياسية بدأت ملامحها مع موريتانيا الجديدة .. وأكثرمن هذا وذاك هناك إحياء حقيقي لذكرى الآمال الموؤودة، وهي الذكرى الثانية التي تشهدها البلاد بعد الاستقلال .
ورغم الاختلاف حول هذه الوقائع أوعليها، فلا أحد مهما كانت عدميته يستطيع التنكر للقطيعة الملاحظة بين خطاب وأسلوب ورؤية ومقاربة وممارسة تتبناها موريتانيا الجديدة .. و مرايا الأمراء .. و تنظيرها التقليدي للحاكم، والذي يروج له على أنه الحل السحري لمشاكلنا المتراكمة منذ عقود من الزمن .
هناك إذا قطيعة بين النظام السياسي الجديد في موريتانيا، ومنظومة الاستبداد الشمولية وتفريعاتها الموازية، وعلى تلك الخلفية كان الموريتانيون سباقون إلى الثورة وكان خريفهم كالعادة قبل الربيع العربي .. وإن كانت مصائفنا الطوال العجاف قد ضيعن اللبن.