مشهدان، الكل منهما ينافي طبيعة الآخر، التنفيذ مغاير، وحياكة الموقف تختلف صنعتها. التبيان فيما بينهما مقصود، وجمع مساحة الشتات التي تفصل أساسات كل منهما مهمة، تُفصّل أسلوبين من الطرح، لهما بريقهما، وقعهما وفاعليتهما، يُخلفان وراءهما العديد من الاشتباكات، ويخلقان قضايا جدلية حول الأفضل والأهم، وهذا ليس موضوعنا، بينما العرض والتفكر هو شغلنا الشاغل في السطور القادمة.
المشهد الأول (القبض على بوسي
مسلسل السبع وصايا)
بوسي (رانيا يوسف) مُكبلة، يسحبها رجال الشرطة، إثر اتهامها بجريمة القتل التي ارتكبتها مشاركة مع أخواتها. يقف الجمع من أهل الحي وهم يشاهدون بوسي مقتادة، وعلى مبعدة، يقف الإخوة الستة، يراقبون أختهم وهي تتحمل وذر فعتلهم جماعا فوق كاهلها وحدها، على الرغم من قرائتهم قبل قليل الفاتحة عهدا بينهم على من يخون أو يخل بالإتفاق.
في حالات مثيلة، لا يتفكر الكاتب في خلق مساحة لهذه اللفتة البسيطة التي خلقت مشهدا جميلا عَمّق شكل وقيمة هروب الإخوة. ففي إيقاع متباطىء، ولقطات محسوبة ومحبوكة، تم التقطيع بالتوازي، على بوسي وهي بين أيادي الشرطة، وبين كل أخ وهو يراقبها من بعيد، والحيرة تأكل صدره، ما بين تردد وجُبن، تنَصُل وانتماء، وموسيقى هشام نزيه تلف الموقف، حاملة كلمات القصيدة الصوفية على خف الريشة ..
«بكت عيني غداة الدمع دمعا
وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاتبت التي بخلت علينا
بأن أغمضتها يوم إلتقينا ..
فعادوا سكارى في صفاتك كلهم
وما طعموا إثما ولا شربوا خمرا
ولكن بريق القرب أفنى عقولهم
فسبحان من أرسى وسبحان من أسرى»
عمل إبداعي يجتمع فيه كل من الكاتب محمد أمين راضي بتخيله للمشهد واستولاده أمرا واقعا على الورق، والمخرج خالد مرعي في رؤيته بعين تُلائمه بحق، وهشام نزيه الذي هداه بهذه المعزوفة الفريدة، ليكون الناتج شبيه بشكل التملص الذي ذكره التاريخ الديني من قبل في قصة المسيح، حينما وعده أحد تلاميذه بالوفاء ومن ثم أنكره ثلاث مرات بعدها بساعات وقت القبض عليه والبدء في توجيه الإعتداءات صوبه بعنف، وهو يتلصص من على مبعدة بين الخزي والرعدة، والشعور الآثم بالذنب. إنه تشبيه شكلي له ذات الصفة الجمالية التي تبرز معنى الشعور المشوه الذي يراود الطرف الخائن. وقد نجح المشهد في ايصاله كما ينبغي وأكثر.
المشهد الثاني (مشهد يوم الحساب ـ مسلسل دهشة)
يجمع «الباسل حمد الباشا» أخواته غير الاشقاء وبناته في منزل أخته الشقيقة «سَكن»، يُبدأ الباسل (يحيى الفخراني) حديثه بإطلاقه على الجلسة «يوم الحساب»، ومن بعدها يبدأ في سرد وقائع قديمة تكشف حقيقة علاقات الإخوة، الكثير من الضغائن التي تجمع بينهم، وتاريخ شقاء الباسل وأخته قبل وصوله إلى ثروته ومكانته التي يتمتع بها اليوم. تتمخض الجلسة عن عداء حقيقي بين الباسل وإخوته غير الأشقاء، وبداية لنهاية قاسمة أليمة خُطت على جبهة ما يربطهم طوال العُمر.
على الرغم من أن المشهد يعد افتتاحية للمشهد الذي يليه، وهو مشهد توزيع تركة الباسل بين بناته الثلاث، أي مشهد عصب رواية «شكسبير» (الملك لير) وهي الرواية التي يقوم عليها المسلسل، إلا أن مشهد»يوم الحساب»، كان بمثابة تمهيد إعجازي لمشهد شكسبير ففاقه أهمية، حيث قام في تكثيف مبهر بتعرية خصال شخصية الباسل، لتملك من بعدها وجها مألوف الملامح، ذو وقع أقوى حينما يُكشر فجأة عن أنياب لإبنته المقربة، ويحرمها من ميراثها ومن قربها منه.
فالمؤلف «عبد الرحيم كمال» يصيغ هنا ملحمة مُصغرة، تبدأ بابتسامة وديعة ونبرة مسالمة على وجه ولسان الباسل، لا تُنذر بالإحتدام الدامي الذي سيليها. فيقوم (الفخراني) بالسرد بالتناوب مع أخته سكن (عايده عبد العزيز)، يُقسّمان قصة الإخوة الصغار الذي سبق وأن جمعهم بيت واحد، بحوار عذب وجُمل لها وقعها الموسيقي الربائبي، نعهدها دوما في كتابة عبد الرحيم كمال، يقتطع الرواية بعض من إعتراضات علام (نبيل الحلفاوي)، وتجزها جزا لعبة الباسل الخبيثة في إذلال الأخ الثالث «أبو ضيف» أمام كبار إخوته، وإعارته مبلغ السلف الذي سبق وأن طلبه مقابل ابتياع المنزل الذي يسكن فيه، ومن ثم تتوالى الإذلالات من بعده. فبضربة قلم يعصف عبد الرحيم كمال بمتفرجه، ويبلغ ذورة التوهج بمشهد وكأنه فيلما قصيرا، عموده الفقري الحوار والأداء. الفخراني يقف مستأسدا أمام الكاميرا يخلق هوية الباسل كما أرادها عبد الرحيم وأكثر، يرسم صورة مرئية متجسدة كقدر بيّن، عقدها الكاتب في عبقرية بالسرد الفموي فقط، إنه المشهد الأقوى والأكثر إلفاتا للتصديق على موهبة «عبد الرحيم كمال» في الكتابة.
آخر كلمتين:
_ في المشهد الأول، الصمت سيد الموقف، والكلمات الصوفية فوق مزيكا نزيه هي المتصدرة شريط الصوت، والعكس في المشهد الآخر، الكلمات مندفعة بغزارة تفتح ما بين فكيها على سعته. وبعيدا عن اختلاف طبيعة المشهدين، فإن كل منهما يظل مستندا على محاكاة مختلفة، وفوق كل نظريات الأفضلية، يبقى الجمال صفة مشتركة، والحق يبقى مع كل شيخ ليُكمل المسيرعلى طريقته.