شغف الصحراويين عامة والموريتانيين خاصة بالشاي الأخضر(أتاي) لا حدود له ، فقد ارتبط بوجدانهم، وسكن تفاصيل حياتهم، وحظى بمُرتكز اهتمامهم، وهو سيد المجالس، فبوجوده يحلو المجلس ويطيب السمر وفي غيابه لا نكهة للسمر ولا طعم للمجلس.
وقد تفنن شعراؤهم في تمجيده، وسارت الركبان بأشعار تقديسهم له، ووصفه بعض شيوخهم بأنه يُذهب ما في القلب من حزن، ومدحه أعلى الموريتانيين مقاما و أكثرهم علما فقال عنه الشيخ محمد الأمين الشنفيطي صاحب كتاب ( أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن ): “خليلي ما بالقلب من ألم الجوى يُداوى برشف من «أتاي» منعنعُ”.
وقد ارتبط ” أتاي” بالإنسان الصحراوي فأصبح علامة مميزة له، متجاوزا كونه مشروبا شعبيا ليشكل مظهرا من مظاهر الكرم وحسن الضيافة، يقول الباحث الفرنسي وأستاذ التاريخ ” بلانشي” الذي زار موريتانيا خلال عام 1900: “تقديم الشاي للضيوف بالصحراء لا يقل أهمية عن تقديم اللبن واللحم، بل إن بعض الضيوف يفضلونه على جميع أنواع المأكولات والمشروبات”.
ولإعداد ” أتاي ” طقوس تبدأ بأن يُحضر(القيًام) عدته وهي “مواعين” تتشكل من صينية تسمى “طابلة” وعليها كؤوس زجاجية صغيرة وإبريق صغير «براد» وآخر كبير لتسخين الماء «مغرج» وحافظات “تاسفرة” تحتوي على الشاي الأخضر( الوركه) والسكر، إضافة الى ماعون صغير لغسل الطابلة وتنظيف الكؤوس خلال دورات الشاي الثلاثة مع الاحتفاظ بفوطة صغيرة – عادة ما تكون قطعة من قماش- لتجفيف الطابلة لتبقى جافة ونظيفة خلال فترة إعداده .
تبدأ أولي دورات ” أتاي” بوضع القَيّام إبرِيقَه على نار هادئة في موقد غازي صغير أو موقد للفحم يسمى “فرنة” به جمرٍ مُلْتهبٍ، لتفوح بعد حين رائحة زكية تدعو الناس إلى الالتحاق به، فيتحلقون حوله فمنهم قيامٌ حولهُ وقعُودُ، يروم كل واحدٍ منهم الظفر بكأس منه، ويتجاذب أطراف الحديث مع الندماء، وهي السانحة التي انتظرها بعضهم علي أحر من الجمر، ففي تلك المجالس يُذاع الجديد ويُحكى القديم.. فيزول الهم وينقشع الغم، لتحل المتعة و المؤانسة ويطغي الحبور و ينتشر السرور، ويتعانق الماضي بالحاضر، في جو تسوده البهجة ويطبعه الوقار، فتنثُر الألسُن أنفَس وأجود و أطيب المقاطع الشعرية، ليتداولها الندماء علماً نافعا و أدبا حلوا وأقاصيص تُروى.
ويُصر الموريتانيون على احترام طقوس “الأتاي” حيث يشترطون فيه “الجيمات الثلاثة” وهي جيم الجمر وتعني أن الجمر هو شرط في إقامة “الأتاي”، وجيم الجر وتعني أن إعداد “الأتاي” ينبغي أن يطبعه التريث و التأني ليسمح ب”إطالة أمد اللذة”، فالشاي في هذه الحالة هو وسيلة لقتل الوقت، و ينبغى للجماعة، أو لأعضائها على الأصح، أن يكون بوسعهم أن يتحدثوا بدون كلفة وبهدوء، وأن يناقشوا بلا تعجل أكثر القضايا تنوعا، وأن يُصب بهدوء لا دفعة واحدة بحيث يتمكن السٌمًار من تبادل الأشعار والأخبار حول “كاساته” المترعة، وفى مثل هذه الحالة، فإن الوقت ليس من ذهب!
والجيم الثالثة هي جيم الجماعة فالأتاي عند الموريتانيين لا يستطيب إلا بجماعة متقاربة في الأعمار متجانسة الطباع.
ورغم ملاحظة أن أحد الجيمات الثلاثة ” الجمر” بدأ في الاضمحلال كما هو الحال بالنسبة للجر فإن ” الأتاي” لا يزال هو ذروة سنام اهتمام الموريتانيين، وإليه تتوق أنفسهم و به يعتدل مزاجهم، يقول الرئيس المُؤَسِسُ للدولة الموريتانية “المختار ولد داده” في مذكراته عند حديثه عن طقوس إعداد “الأتاي” و شغفهم به :
ومن البديهي أن شايًا معدا وفق قواعد “الجيمات الثلاثة”، ليس فى متناول الجميع. فمعظم المستهلكين لا يستطيعون احترام تلك القواعد ولا يرغبون فى احترامها. وهم يعدون شايهم ويشربونه حسب وسعهم، فهناك “أتاي الغزى” أي الشاي المعد على عجل. والمهم بالنسبة لجمهور المستهلكين هو أن يشربوا الشاي.
وكان المناهضون للجر كثرا ويقولون إنهم لا يريدون أن يحرموا أنفسهم منه طويلا أو أن تنتابهم حالة المدمن بين كأسي الشاي الواحد!).
وقد دارت مُساجلات أدبية بين أنصار ثلاثية الكؤوس″الدورات” في جلسة الشاي ودعاة الرباعية، كما جرت مناظرات أخرى بين الداعين إلى ملء الكؤوس إلى النصف أو إلى ثلاثة أرباعها، وبين من يريدونها مترعة.
ورغم المتعة و اللذة التي يتحصل عليها الموريتاني من إقامة و شرب الشاي إلا أن بعض المنغصات كانت تنغص من تلك المتعة، من ذالك ما يعرف ب(السكاكه) وهم المتطفلون الذين يقتحمون سكينة البعض و خلوته، بحثا عن موائد الشاي وهم في سبيل ذالك لا يحترمون خصوصية أحد.