لا أدري لو قُدّر لي يوماً أن "أمسك" منصباً من فئة "معالي" أو "فخامته" فهل سأكون "فاسداً" أم لا؟
وهل سيتجرأ أحد حينها على وصفي بالمفسد؛ وبالتالي محاسبتي؟
أنا الآن مجرد مواطن عادي، وليس لدي أي فرصة "للفساد" ،
فسادي مقتصر فقط على تشجيع المفسدين.
أو رمي الأوساخ في الشوارع .. أو إعانة صاحب مدرسة "مفسد" على زيادة الأرباح .. أو مجاملة مسؤول "مفسد" بأنه عمر بن الخطاب .. باختصار كل ما يمكن أن "أفسد فيه" أشياء بسيطة.
أنا في الدرجة الثالثة من مقياس الفساد وكما تعلمون فللفساد ثلاث مقاييس:
الأول يتلخص في عامة الشاب والثاني في نادي الموظفين ورجال الأعمال ففسادهم من الدرجة الثانية وهو فساد فوق الثالث وتحت الأول:
هو فساد شايع ومنتشر بين الموظفين مثل أن يستخدم أحدهم ماكينة التصوير في المرفق العمومي لتصوير صفحات من كتاب الطهي لزوجته "الفاسدة"، التي لا تحترم حقوق مؤلفة الكتاب "الفاسدة"، التي سرقت أغلب الطبخات ، كما يقوم أحدهم بتصوير بعض نماذج الاختبارات لأبنائه "المفسدين" الذين استطاعوا إقناع مدرسهم "الفاسد" بتزويدهم بمجموعة من الأسئلة التي لن يخرج عنها الاختبار، تحت نظر مدير ومالك المدرسة "المفسدَيْن" اللذين لا يهمهما سوى زيادة الأرباح.
كما أن حدهم يستخدم هاتف العمل في عمل مكالمات على جوال ليسأل الخادم المنزلية "الفاسدة"، عن وجبة الغداء .. إضافة إلى ممارستهم الكذب مع المراجعين للإدارة "الفاسدة" ؛ حيث يخبرك أحدهم أن مديره "الفاسد" في اجتماع بينما هو خارج المكتب في الطريق إلى المستوصف "الفاسد"؛ ليقابل طبيباً "فاسداً"؛ ليمنح زوجته المعلمة "الفاسدة" تقريراً طبياً مدفوع الثمن لغيابها لمدة أسبوع.
هذه الطبقة الثانية من نادي "المفسدين" وهي تمارس "فسادا" من النوع المتفشي والمتعارف عليه ويمارسه الجميع؛ حيث إنه لم يعد يسمى فساداً.
أما الطبقة الأولي من "المفسدين" نخبة النخبة وخيرة المفسدين .. والتي على فكرة كل الموريتانيين وللاسف مشاريع "مفسدين" من الطراز الأول ، طبعا هذه الطبقة معروفة لكل الموريتانيين ولأصحابها ألقاب مثل "فخامته" و "معاليه" و "سعادته" و "سيادته" ، واللبيب تكفيه الإشارة.
صديق "المفسد" السابق كما يسمي نفسه الذي خرج مع "الدعاة" ثلاثة أيام وأطلق لحيته ، ويدعو "فخامته" و "معاليه" و "سعادته" و "سيادته" للإقتداء به يقول: لا أدري إن كان يجوز لنا أن نطلق على من يسرق الملايين مفسداً أم لا؛ بحكم أننا بالتأكيد سنفعل ما يفعله لو كنا مكانه، ولن نتورع عن ذلك، فمن المؤكد أن من يسرق ورقة تصوير سيسرق مليوناً، ومن يرضى بالتستر على مديره سيتستر على تجار المخدرات وعلى تاجر أجنبي يمارس التجارة باسمه، ومن يشتري الأسئلة سيشتري ذمة أكبر مقاول، ومن يحصل على تقرير طبي مزوَّر سيزوِّر تقريراً باستلام مشروع لم ينفَّذ أصلاً.
الفاسد فاسد، سواء كان يسرق الملايين أو يسرق ورقة تصوير أو يسرق وقت الدوام، والفرق بين هذا وذاك أن "هذا" وجد مالاً يسرقه و"ذاك" لم يجد مالاً فسرق ما يظنه أقل ضرراً، بينما هو أكبر تأثيراً.
لا يمكن أن نحصر "الفساد" في شخص معين ، فهو ليس صفة شخصية يتصف بها فلان ولا يتصف بها فلان؛ الفساد مثل الفيروس، يوجد في البيئة الصالحة لتكاثره؛ فكما أن الفيروس يعيش في الجسم الضعيف قليل المناعة فإن الفساد ينتشر في البيئة ضعيفة "القوانين" وقليلة "الرقابة".
بالطبع أقصد القانون الذي لا يضعه الوزير، وإنما لجنة مستقلة والتي لا يكون رئيسها من فئة "فخامته" و "معاليه" و "سعادته" و "سيادته".
اختم بهذه القصة فقد اهتزت المدينة , وعجت الطرقات بالوافدين من التجار في عهد عمر الذين نزلوا المصلى , وامتلأ المكان بالأصوات .
فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما : هل لك أن نحرسهم الليلة من السرقة ؟!
فباتا يحرسان ويصليان ماكتبا الله لهما , فسمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه صوت صبى يبكى , فتوجه ناحية الصوت , فقال لأمه التى تحاول إسكاته : اتقى الله واحسنى إلى صبيك .
ثم عاد إلى مكانه فارتفع صراخ الصبى مرة أخرى , فعاد إلى أمه وقال لها مثل ذلك , ثم عاد إلى مكانه , فلما كان فى أخر الليل سمع بكائه , فأتى أمه فقال عمر رضى الله عنه فى ضيق : ويحك إنى أراك أم سوء , ومالى أرى إبنك لايقر منذ الليلة ؟!
قالت الأم فى حزن وفاقة : ياعبد الله قد ضايقتنى هذه الليلة إنى أدربه على الفطام , فيأبى .
قال عمر رضى الله عنه فى دهشه : ولم ؟
قالت الأم فى ضعف : لأن عمر لايفرض إلا للفطيم .
ارتعدت فرائص عمر رضى الله عنه خوفا , وقال فى صوت متعثر : وكم له ؟
قالت : كذا وكذا شهرا .
قال عمر رضى الله عنه : ويحك لاتعجليه .
ثم إنصرف فصلى الفجر ومايستبين الناس قراءته من غلبة البكاء , فلما سلم قال : يابؤسا لعمر ! كم قتل من أولاد المسلمين ؟!
ثم أمر لكل مولود فى الإسلام , وكتب بذلك فى الأفاق .