الحوار ليس مجرد تبادل الكلام، إنه أعمق من ذلك بكثير، وهذا ما حاول الناقد والمفكر الروسي ميخائيل باختين التعبير عنه في طرحه النظري حول «الحوار» و»الحوارية». الحوار يتأسس على اعتراف متبادل بين طرفي الحوار. والاعتراف ينبني على الإيمان بوجود الآخر باعتباره وجهة نظر. وحضوره الحواري قد يؤثر في وجهة نظرك، كما قد يعمل على تحويلها في اتجاه مختلف. داخل حلبة الحوار، نؤثر ونتغير. اعتراف متبادل بين طرفي الحوار.
عندما ينتفي الحوار في المجتمع، تنتشر الصور الجاهزة، وتهيمن التصورات المستهلكة، والقوالب المتداولة بين الناس وعن الناس. يؤدي هذا الوضع إلى شبه تعطيل لمعرفة الآخر، ولوجوده، ومن ثمة معرفة الذات، ووجودها، مادام السفر إلى الذات يبدأ من الآخر، ومعرفة الذات تبدأ من معرفة الآخر. عبر الآخر ترى الذات ذاتها، ويدرك الآخر ذاته.علاقة متداخلة ووظيفية بين الاعتراف بالآخر كوجود، ومحاورته كوجهة نظر. إن اختصار الذات أو الآخر في صور جاهزة، خارج الوعي بالسياق وتحولاته، من شأنه أن يلغي مفهوم الوجود بالمعنى الفلسفي للإنسان.
من هنا، لا يعني حضور عدد كبير من الشخصيات داخل عمل أدبي وفني وسينمائي حضورا مستحقا للحوار، كما لا يحدد العدد الكمي للأفراد المتكلمين، نسبة تحقق الحوار. في ذات الوقت ليس كل تبادل للكلام بين متكلمين في رواية ما، مؤشرا تقنيا عن وجود الحوار في الرواية. غير أن طبيعة كلام المتكلمين، وعدد الذين يتبادلون الكلام في رواية ما، من شأنه أن يعبَر عن وضعية الحوار في هذا المجتمع الروائي.
«نباح»(1) رواية الكاتب السعودي «عبده خال» تطرح هذا الموضوع، بتقنية سردية دالة، وكأنها تعيد سرد قولة باختين حول مفهوم الحوار، وعلاقته بالاعتراف بالآخر باعتباره وجودا.
تأتي رواية نباح في منطقة زمنية جد ملتبسة.تًبنى حكائيا بين فضاءين يوجدان على العتبة/ زمن الأزمة، وهما مطار جدة/السعودية، ومطار عدن/اليمن. وتبنى سرديا بين فضاءات متعددة ومتنوعة، يهيمن عليها الفضاء الخارجي، فضاء التذكر/الماضي الذي يسمح بدخول حكايات تتناسل، وأزمنة تتوالد، تحرر إيقاع الحكاية الممتد أفقيا من وإلى، تجعله يعيش التوتر، ويعرف أزمة التنقل حين يشتغل السرد بالحكاية بشكل المد والجزر.
يُفتتح السرد من مطار عدن والإحالة على عودة السارد – الصحافي السعودي من اليمن بعدما حضر أعمال مؤتمر الديمقراطيات الناشئة، وعاد بوثيقة مولود الحبيبة، بدل العودة بها،وتحقيق حلم اللقاء، ثم ينتقل السرد إلى مطار جدة فعدن من جديد فجدة مرة أخرى في عملية دائرية تًحدث الغثيان، وتًدخل السارد الصحافي في دوامة الفراغ، الذي يظل يبحث له عن حجم، وشكل باعتماد الفضاء الخارجي، فضاء التذكر يقول السارد «للفراغ: أشكال، أحجام، ومساحات، وروابط» (ص 164) إنه «لعبة الفراغ، نحن كائنات انتقالية، فالفراغ يتشكل وفق الأحجام التي يلتهمها. هي لعبة مغايرة لما اعتدنا عليه…ثمة هاوية سحيقة تدعى الفراغ»(ص16).
الإحساس بالفراغ يتجلى فضائيا من خلال هيمنة العتبات التي تضع الإنسان في موقع مرتبك، وملتبس، أو ما يمكن تسميته باللا موقف، والذي يؤشر على زمن الأزمة، أزمة الانتظار غير المحسوم، الذي حين يهيمن، ويتعثر في العتبات، فإنه يشخَص حالة وجودية إشكالية.
كما يتجلى زمن الفراغ، في منطقة التواصل بين الشخصيات الروائية، التي يشهد حضورها الكلامي، عن طبيعة الحوار في مجتمعها، وعلاقاتها/ وعيها ببعضها. وإذا كانت الرواية قد طرحت ثنائية الأنا/العربي والآخر/الأجنبي، وعبرت هذه الثنائية عن شكل حضور الآخر في الوعي العربي، وهي علاقة بدأت تعرف تبدلات، بفعل الوعي بتعدد الآخر وتنوعه، ومن ثمة اختلاف مصالحه، فإن أهم مجال تتجلى فيه أزمة الفراغ الوجودي هو مجال حوار الشخصيات العربية فيما بينها، والتي سيدفع وضعها إلى إعادة النظر في مفهومي الوحدة والانسجام فيما يخص الذات العربية.
تفكك رواية «نباح» هوية الذات العربية، وتخرجها من فكرة الوحدة/ الانسجام، وتجعلها موضوعا للسؤال والتأمل من خلال تحويلها إلى آخر يتلقى خطابات تربك معنى وجوده، وتخلخل قناعاته .
ساهم عاملان اثنان في جعل الشخصيات العربية في «نباح» تعيش موقع «الآخر»، بعيدا عن موقع «الذات». سمح – من جهة – فضاء السعودية باعتباره فضاء للوافدين العرب والأفارقة بحثا عن العمل، من جعله فضاء للتعدد الاجتماعي العربي، ومن ثمة لدخول هذا التعدد في حوارات حول هوية كل ذات/ آخر. وتعمق الحوار والخلاف والتناقض مع زمن الحرب الذي أربك نظام الحياة، والعمل بالنسبة للوافدين، واضطرهم للمغادرة والعودة بعد سنوات من الغربة إلى بلدانهم، يحملون معهم أسئلة الغربة والوطن والهوية والحرية. ومن جهة ثانية سمح مؤتمر الديمقراطيات الناشئة باليمن بتواجد مهم لإعلاميين عرب، جاؤوا لتغطية أعمال المؤتمر، فانتقل الحوار بينهم من الحوار حول محاور المؤتمر، ونتائجه وقراراته إلى نقاشات بدأت خلافية حول مواقف سياسية، وانتهت انفعالات شخصية جاءت بلغة السب والشتم. اتخذ الحديث حول الآخر في لقاءات فضاء السعودية طابعا اجتماعيا، لكونه يتم بين السارد السعودي من جهة، وبين العمال الوافدين من بلدانهم خاصة اليمن، والتعبير عن موقف كل جهة من الآخر. تتحول الذات السعودية إلى آخر في منظور الوافد اليمني الذي حين اضطر لمغادرة مكان عمله/السعودية، قرر التحرر من نظام الكفالة. لقد حررت الحرب الوافد اليمني، وجعلته يعبر بجرأة عن مواقفه اتجاه المواطن السعودي. ولم يمنع الحب جرأة خطاب المواجهة، فالحبيبة اليمنية» وفاء» تلوم حبيبها/ السعودي وهي تغادر رفقة أسرتها أرض جدة إلى اليمن. تحاكم «وفاء» من خلال الحبيب موقف السعودية الذي اضطر الوافدين اليمنيين إلى المغادرة، بعد سنوات من العمل. وهو الموقف الذي جعل اليمنيين يكتشفون أنهم لم يكونوا- كما كانوا يتصورون- ذوات تنتمي إلى أرض جدة، ولكن مجرد «آخر» في منظور أصحاب الأرض. بل تحتد أزمة العودة بالإحساس بالغربة في الوطن الأصلي/اليمن. عندها سيتحول العائدون إلى غرباء يعيشون فضاء العتبة/ زمن الأزمة الذي عبرت عنه» وفاء» بجرح الهوية المفقودة: «غدا سأكون هناك..غريبة في بلدي».(ص 114).
تمزق الحرب مكونات الذات الواحدة وتفتت أبناء الوطن الواحد، وتدخلهم في اصطدامات، فاليمني الذي قرر المغادرة، يعتبر اليمني المقرر للبقاء في أرض السعودية عميلا «من يبقى في السعودية فهو عميل، وعلى الأحرار أن يعودوا إلى بلادهم»(ص 94). طبيعة الحرب هي التي تحدد معنى العميل والحر والهوية والوطن.
أما باليمن فإن لقاء الإعلاميين العرب بدا سياسيا في الأول، يناقش قضية الآخر الأمريكي، وكيف يخرق مؤتمر الدول النامية، ويفرض شرطه التوجيهي، ويؤطر جلسات المؤتمر، ويوجه محاوره، لينحرف إلى الاجتماعي، والدخول في صراعات، تتحكم فيها الصور الجاهزة حول كل ذات عربية من طرف الذات الأخرى.
تتضح العلاقة بين الشخصيات العربية من خلال عينة من الأوصاف تتفق في رفض كل واحد للآخر، وعدم قبوله، واعتماد صور جاهزة في التعاطي معه عند الحوار والحديث. ولعل أهم مشهد حواري يشخص هذا الوضع هو مشهد الحوار بين السارد- الصحافي السعودي والصحافية المصرية «سلوى»:
نمثل للمشهد الحواري المقطع التالي:
«قفزت الأفعى التي تجاورني:
- لا يمكن أن أجلس بجوار هذا المتخلف.
- تصدقينني لو قلت لك إن رائحتك كانت تخنقني وكنت سأرجوك أن تجلسي في مكان آخر.
اتسعت محاجرها،وبرز ناب فوق شفتها السفلى وهي تصيح:
- يا متخلف»(ص 171-172)
تعبر وضعية تبادل الصور-الانطباعات الجاهزة بين مكونات الذات العربية في زمن مؤتمر الديمقراطيات عن حقيقة الحوار بين العرب، وإكراهات تحققه، وأشكال الخلل التي تعيق التفاعل بين الذوات، وتمنع كل ذات من أن تصغي إلى الذات الأخرى حتى تحقق المعرفة الموضوعية بعيدا عن الاستعانة بالتصورات الجاهزة.
بهذا الشكل، يصبح الكلام نباحا، والحضور غيابا، والذات قبيلة، والحوار تبادلا للشتائم، ويصبح فضاء العتبة، تشخيصا سرديا، لحقيقة الذات العربية التي يتجذَر موقعها في فضاء العتبة، زمن الأزمة، أزمة انتظار الممكن.
(1): خال(عبده): نباح
منشورات الجمل، الطبعة الثالثة 2010