يطرحُ الأدب العربي الحديث، قضيّة لافتة ما كانت تخطر على أيّ من أسلافنا: قضيّة»الأدب النّسويّ» أو النسائيّ التي عمّت أقطارا عربية كثيرة، بما فيها تلك التي لم تحصل فيها المرأة على أبسط حقوقها، أو هي لا تزال على هامش المجتمع والتاريخ. على أنّ هذا المصطلح «الأدب النسوي» يعاني قدرا غير يسير من قلق العبارة، أو هو لا يزال في طريقه إلى التدقيق والاستقرار؛ وربّما رأى فيه البعض فصلا لا مسوّغ له بين أنماط من الكتابة، هي بمثابة قواسم مشتركة بين الرجل والمرأة. فالأدب «علم لا موضوع له» كما يقول ابن خلدون. وإذا كان كذلك فإنّ أيّ موضوع يصلح أن يكون مادة للأدب، سواء كان مخصوصا بالرجل أو بالمرأة. ذلك أنّ الأدب يمتح من الواقع من حيث هو بنية جوفاء؛ أو أنّ مادّته «الخارجيّة» ـ وهي «واقعيّة» بالمعنى الواسع للكلمة الذي يعدو مجرّد تصوير الأشياء أو تمثيلها في حقيقتها، إلى خوافيها وأوهامها واستيهاماتها ـ لا تقتضي بنية فنيّة، على حين يقتضي تشكيل البنية الفنيّة، إعادة بناء هذه المادة على مقتضى قوانين الأدب الجماليّة.
والأدب مرتهن بـ»موهبة» الكاتب/الكاتبة، وخبرة كلّ منهما ذكرا أو أنثى، وثقافته؛ ولا علاقة له في الظاهر، بالجنس الذي ينتمي إليه صاحب/صاحبة الأثر. لذلك يبدو مصطلح «النقد النسوي» أكثر دقة وملاءمة لهذا الخطاب الذي ذاع أمره في الستّينات من القرن العشرين. ولعلّه لا يختلف عميقا عن الطرح الغربي الذي قام أساسا على المطالبة بحقوق المرأة المشروعة من مساواة وحريّة اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة. وكانت فرجينيا وولف واحدة من أهمّ رائدات حركة تحرير المرأة، وهي التي أقامت نقدها على مهاجمة فكرة الوطنيّة والقوميّة وقيم المؤسّسة الأبويّة البريطانيّة التي شُنّت باسمها حروب عديدة في شتى أنحاء العالم. ومن المأثور عنها قولها: «باعتباري امرأة ليس لي وطن. باعتباري امرأة لا أريد وطنا باعتباري امرأة فإنّ العالم كلّه وطن لي».
على أنّ هذه الدعوة الى تقويض الحدود والفواصل بين الثقافات، قد تنطوي فيالغرب على نوع من «الاستعلائيّة» هي أشبه ما تكون بصوفيّة أحادية مفارقة. وقد تصدّت لها غير واحدة من الكاتبات. ولعل الشاعرة الأمريكيّة أدريان ريتش أكثر هؤلاء جرأة ووضوحا. فمن الضروريّ بالنسبة إليها أن تعلن المرأة هويّتها الثقافيّة وتعترف بها، وأن ترفض فكرة الوطنيّة أوالشوفينيّة التي تقدّم باعتبارها طريقة الحياة الأمريكيّة.وهي ترجّح أنّ أكثرالأوهام زيفا وأشدها غلاّ وحقدا في أوهام القوة الأمريكية؛ والقوة الغربيّة البيضاء: وهْم الرجل الغربي الذي يعتبر نفسه مركز الكون، وأنّه يحمل رسالة وحقا في أن يحكم على قيم الآخرين ويستنزفها ويخرّبها.
ومهما يكنْ من أمر هذا التعدّد أو الاختلاف في «الأدب النسوي» أو «النقد النسوي» ومن تعدّد مصادراته ووجهات النظر فيه؛ فإنّ الجامع بينها، جملة من المفاهيم هي في تقديرنا مفاتيح هذا النقد. ومن أظهرها الإقرار بأنّ الثقافة الغربيّة هي إجمالا ثقافة الذّكر، فهي تجسّد سلطة «الأب» في شتى مناحي الحياة الدينيّة والعائليّة والسياسيّة والفنيّة،على نحو ما نجد في مجتمعاتنا العربيّة ـ وإنْ على نحو مروّع ـ ولكن من «المروّع» يبدأ «الرائع». ومهما يكنْ فإنّ هذا من شأنه أن يستدعي إعادة تعريف مفهوم النوع البشري (ذكر وأنثى) فهو في تقدير هؤلاء بنية ثقافيّة أرستها وعززتها سمات الذكورة، في شتى الأعمال الأدبيّة والفنيّة؛ منذ العصر الإغريقي إلى عصرنا هذا.
لعلّ في هذا ما يعزّز من وجاهة الرأي القائل بأنّ الرؤية الأدبية أو الفنية أعمق من أن تجزّأ بين ذكر وأنثى. فهي اتحاد بين الاثنين: رجل حوّاء، أو امرأة آدم. ومثلما يستطيع هذا أن يفكّر من خلال الأنوثة، تستطيع تلك أن تفكر من خلال الذكورة .ومنطق الضدّيْنِ الثنائيين قد يكون قائما في كل كتابة. والرؤية الفنية الحق إنّما هي في المصالحة بين الأضداد..
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي