يقول خبير إقتصادي، أمضى عقودا في القطاع المصرفي، ان إعتبارات شرعية وعملية تدعو إلى إعادة النظر في الهياكل والأدوات التي تعمل بها البنوك الإسلامية، وفي مقدمتها أداة المرابحة واسعة الإنتشار.
وفي كتابه «حتمية إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي» يقول حسين كامل فهمي، الخبير السابق في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية في جدة، انه لا يوجد فارق كبير بين الشكل النهائي للهيكل والأدوات في البنوك الإسلامية والتقليدية ويرى «حتمية» إعادة هيكلة القطاع بشكل شامل.
ويبرر ذلك بأن الأدوات الحالية للبنوك الإسلامية تعد نواة لخلق سوق آجلة،يتلاقي فيها العرض والطلب على الائتمان من خلال «توسيط وهمي» للسلع، مما يؤدي في النهاية إلى تفشي الربا في المعاملات المالية، والإضطرار إلى الإعتراف به بطرق مستترة، الأمر الذي يتناقض مع الهدف الذي قامت البنوك الإسلامية لأجله، وهو تقديم بديل متوافق مع الشريعة.
ينتقد فهمي أدوات مثل «بيع المرابحة» الذي يشكل الجانب الأكبر من معاملات البنوك الإسلامية، و»عقد الشراكة المتناقصة» و»عقد الإجارة المنتهية بالتمليك (التأجير التمويلي)» و»الإستصناع» و»التورق الفردي والمنظم» ويخلص إلى أنها «تؤول جميعها إلى الغرر وبيع العينة» المنهي عنه في الإسلام، ويوصي بضرورة إلغائها.
ولا يقف عند رفض الأدوات بل ويوجه سهام إنتقاده إلى ما يصفها بالمشكلات الهيكلية للبنوك الإسلامية، مثل ظاهرة خلط الأموال في الحسابات الإستثمارية، وغلبة أرصدة الديون على المراكز المالية، وعدم فعالية الأدوات النقدية المعمول بها.
ويرجع الخبير، الحاصل على ماجستير في إدارة السياسات الإقتصادية العامة من جامعة هارفارد الأمريكية ودكتوراة في الإقتصاد الإسلامي من جامعة القاهرة، بجذور الخلل الذي يطالب بتصحيحه إلى الانطلاق من محاولة محاكاة البنوك التقليدية، وتأخر صدور الفتاوى إلى ما بعد بدء العمل بكل أداة مصرفية إسلامية، والإستثمارات الضخمة في الهياكل والأدوات الحالية.
وقال في مقابلة عبر الهاتف «البنوك الإسلامية بدأت بآراء فقهية سطحية جدا.»
البداية المتعجلة
بدأت البنوك الإسلامية عملها بأداة «المرابحة» التي تظل حتى الآن الأكثر إستخداما في القطاع، وهي إتفاق بين البنك وأحد عملائه يطلب فيه العميل من البنك شراء سلعة معينة، على أن يتعهد بإعادة شرائها فور تملك البنك لها على أساس آجل، بعد إضافة هامش ربح إلى التكلفة الأصلية. ويجري عادة تقسيط ثمن البيع النهائي على فترة زمنية معينة.
وجدت البنوك الإسلامية في هذه الأداة ضالتها، بإعتبارها تهيئ شكلا يتمشى مع مبادئ الشريعة، لإندراج التعامل بينها وبين العميل في إطار عقد البيع، وليس عقد القرض المتبع في البنوك التقليدية، ولأنها تجنب البنك مخاطر الوقوع في كثير من المشكلات العملية المتعلقة بوجود السلعة نفسها والاحتفاظ بها في حوزته، وإحتمالات إعراض العملاء عن السلع بعد شراء البنك لها.
كان أول من اقترح أداة المرابحة سامي حسن حمود في رسالته للدكتوراه المطبوعة في كتاب صدر عام 1982 بعنوان «تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق مع الشريعة الإسلامية» وإستند فيها إلى فتوى للإمام الشافعي.
لكن فهمي يرى أن الفتوى تضمنت شروطا يترتب عليها الفصل بين عملية شراء السلعة في البداية وعملية بيعها بعد ذلك، ويقول إن ذلك غير متحقق في أداة المرابحة بصيغتها الحالية في البنوك الإسلامية، حيث يتعلق العقد ببيع سلعة غير مملوكة للبائع من الأصل.
وتتمثل أهمية آراء فهمي في أنها تنال من معاملات شائعة داخل القطاع الذي يجتذب بمسماه الإسلامي ملايين العملاء في شتى أنحاء العالم. بل إن نموذج عمل البنوك الإسلامية يرتكز عليها بشكل شبه كامل، ناهيك عن أنها توجه إنتقادات شرعية وعملية لأدوات حاصلة على موافقة هيئات شرعية وأجهزة رقابية.
وفي قطاع يرى البعض أنه يعاني، من جراء تباين الفتوى وتفاوت الآراء الفقهية، تتقاطع انتقادات فهمي مع مواقف خبراء آخرين يشاطرونه بعض تحفظاته، لكن دون أن يتفقوا معه على الحلول المقترحة.
فإعادة الهيكلة التي يقترحها تتضمن – إلى جانب إلغاء العمل بالأدوات سالفة الذكر – أفكارا جذرية، مثل إقتصار البنوك الإسلامية على نشاط الخدمات المصرفية كبيع وشراء العملات، وتحويل الأموال للخارج وفتح الحسابات الجارية على سبيل الأمانة المحضة، وإصدار بطاقات ائتمان مغطاة بالكامل.
ويوصي باعتماد الشركة القابضة كهيكل جديد للبنوك الإسلامية، والعمل بنظام البنوك الضيقة، وهو مفهوم يشير إلى فصل أنشطة الإيداع والمدفوعات عن أنشطة الوساطة المالية.
لكن فهمي يذهب لأبعد من ذلك في نموذجه المقترح، حيث يرى حتمية إلغاء نشاط التمويل الائتماني كلية، واستبداله بعمليات المشاركة القائمة على مبدأ «الغنم بالغرم» أو المشاركة في الربح الخسارة.
إتفاق وإختلاف
يجد الخبراء صعوبة في قبول مثل تلك المقترحات.
ويقول أشرف دوابه، الخبير والمستشار الدولي في التمويل والإقتصاد الإسلامي، انه يرى بالفعل إنفصاما بين التطبيق والتنظير في قطاع التمويل الإسلامي، وأن التجربة «ربما لم تؤت ثمارها حتى الآن»، لكنه يؤمن بإمكانية إصلاح الأدوات القائمة بدلا من إلغائها تماما.
وقال في اتصال هاتفي «الصيغ شرعية لكن التطبيقات فيها إنحراف باتجاه محاكاة المعاملات التقليدية .. المرابحة وتحمل المخاطرة غلبت على الدور التنموي المفترض للبنوك الإسلامية. لا بد من تفعيل سائر صيغ التمويل الإسلامي والتي تصل إلى 16 صيغة.»
ويعلق على فكرة البنوك الضيقة قائلا «هذا ليس بنكا .. أرى أن نعالج المشاكل القائمة لا أن نلغي الفكرة كلها ونقضي على أدوات التمويل.»
من جانبه يرفض محمد البلتاجي، رئيس الجمعية المصرية للتمويل الإسلامي، مجمل آراء فهمي عدا الجزء المتعلق بأداة «التورق المنظم» المثيرة للجدل داخل القطاع والتي صدرت فتاوى كثيرة بتحريمها.
ويقول «التورق المنظم بدأ العمل به كأداة إنتقالية للبنوك التقليدية الراغبة في التحول إلى النظام الإسلامي، لكن البعض رأى فيه إمكانية توفير السيولة النقدية بسهولة مما أدى إلى التوسع فيه .. أضر ذلك بالبنوك الإسلامية وبمصداقيتها.»
و»التورق المنظم» هو طلب الأفراد للنقود السائلة من خلال إعطاء أمر للبنك لشراء سلعة ثم بيعها للعميل بسعر آجل ثم يوكل العميل البنك لبيعها نيابة عنه بسعر حاضر لشخص ثالث.
عمليا تبدو آراء فهمي عصية على التطبيق. فالتمويل الإسلامي من أسرع القطاعات الإقتصادية نموا في العالم. ومن المتوقع بحسب مؤسسة «إرنست آند يونغ» الإستشارية العالمية أن تبلغ الاُصول المصرفية الإسلامية في حوزة البنوك التجارية 3.4 تريليون دولار في نهاية 2018، في حين تخطت الأرباح المجمعة للبنوك الإسلامية في أسواقها الستة الرئيسية – قطر وإندونيسيا والسعودية وماليزيا والإمارات العربية المتحدة وتركيا – العشرة مليارات دولار للمرة الأولى نهاية 2013.
يقول البلتاجي «المقترح مستحيل التطبيق، بل ولا يوجد مبرر شرعي له … العقود ممتازة ومتفق عليها من الهيئات الشرعية وتم تطبيقها ونجحت.»
وفي حين يشكو البلتاجي من منتقدي التمويل الإسلامي الذين «ليست لديهم قناعة بالبنوك الإسلامية أو لا يعرفون المعايير المطبقة»، وهي شكوى تتردد كثيرا داخل القطاع، فإن ذلك لا يسري بالتأكيد على فهمي الذي شغل من قبل منصب نائب المدير العام لإدارة البحوث والتخطيط في بنك فيصل الإسلامي المصري، وله العديد من البحوث والدراسات المتخصصة.
ورغم الإعتبارات الإقتصادية التي يسوقها لتبرير مقترح إلغاء الأدوات الحالية وإعادة هيكلة القطاع، تخلو دراسات فهمي من أي تقدير للتكلفة المالية لعملية جذرية من هذا القبيل، حيث يراها واجبة «مهما كانت التكلفة للخروج من هذا المأزق>»
ويتساءل في حواره مع رويترز «هل يعقل أن نجد أذون خزانة في ميزانية بنك إسلامي كبير؟» لكنه رفض الإفصاح عن اسم البنك. وأذون الخزانة من أدوات الدين غير المتوافقة مع الشريعة الإسلامية بسبب الفائدة.
اجتهادبدأ فهمي العمل في القطاع المصرفي عام 1966، وإنضم إلى بنك فيصل عندما بدأ نشاطه في 1979. وهو من خبراء الإقتصاد الإسلامي المعتمدين لدى مجمع الفقه الإسلامي العالمي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
لم يكتف بدراساته الإقتصادية المتخصصة في هارفارد وفي الجامعة الأمريكية – حيث حصل على ماجستير ثان في الإقتصاد – بل ضم إلى ذلك دراسة العلوم الشرعية من خلال التخصص في الفقه الشافعي تحت إشراف علماء مثل علي جمعة مفتى مصر السابق.
ويقول إن النتائج التي توصل إليها هي نتاج الخبرة العملية ودراساته العلمية في الإقتصاد والفقه الإسلامي على حد سواء. ويضيف «الأمر يتطلب خلفية إقتصادية قوية وخلفية فقهية قوية .. المشكلة إن البنوك بدأت العمل قبل إجراء مناقشة فقهية عميقة، وكلما توسعوا زادت صعوبة الرجوع عن الأوضاع الحالية.»
لكن فهمي يرفض التشكيك في آراء المؤسسات الشرعية كمرجعية إفتاء للعميل العادي غير المطلع على المفاهيم الإقتصادية وغير المتبحر في علوم الفقه الإسلامي.
وقال لرويترز «العميل العادي للبنك مقلد ولا إثم عليه مادامت هناك فتوى من مجمع الفقه ومن مجالس شرعية اُخرى وكان من الصعب عليه تبين الحق بنفسه. لكن من يسألني أقول له: حرام.»
ويقر بأن رأيه لا يلقى تأييدا إلا من أقلية في أوساط المتخصصين والفقهاء. وحتى هؤلاء قد يحاولون إصلاح المنظومة عن طريق تعديل صيغ العقود أو فرض شروط معينة على الأدوات.
ورغم قناعته التامة بعدم إمكانية إصلاح الأدوات الحالية «حيث ما بني على باطل فهو باطل» يشدد فهمي دوما على أن رأيه محض إجتهاد شخصي مرددا مقولة الشافعي الشهيرة «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».