أبو طارق محمد ولد الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
ما إن أقدمت السلطات الموريتانية على قرارها الجائر الأرعن، في حق منارات الوطن ومعالمه الأصيلة ( المحاضر ) التي تمثل هويته الحضارية وخصوصيته الثقافية، حتى لاحت لفريقين من هذا المجتمع من خلاله فرص ذهبية سانحة، رأى الكل أن من واجبه استغلالها في ما يحقق له مصالحه، ويلبي له رغباته، كل بطريقته وأسلوبه.
ورغم اتحاد الجميع في اعتبار ذلك الحدث اللافت فرصة العمر، يبقى التناقض في اهتبال تلك الفرصة سيد الموقف ومميز اللحظة. أجل، هي فرصة نادرة استغلها عباد الله تعالى في التقرب إليه والوفاء بعهده الذي أخذ عليهم بتبيان الحق الذي شرفهم بأهليته، والدفاع عن الكتاب العزيز الذي أودعه صدورهم، فلبوا نداء ربهم جل وعلا : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا". فقاموا بالقسط وأدوا الواجب غير آبهين بالتكاليف المترتبة على ذلك، ولا مبالين بالثمن الباهظ الذي يدفعه القائمون الصادعون بالحق: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا". نعم لأنهم عودونا على التصريح في الأوقات التي يصمت فيها الآخرون، والوقوف في وجه مثل هذه القرارات التغريبية المقيتة بكل صلابة وثبات:
إنا إذا مالت دواعي الهوى .... واختلط الحابل بالنابل
لا نجعل الباطل حقا ولا .... نلط دون الحق بالباطل
هكذا دربهم الذي اختاروا سلوكه باعتباره سبيل الله الموصل إلى رضوانه وثوابه، فلقد عاهدوه على نصرة دينه والذب عن حرماته والنصيحة لكل مسلم، دون مجاملة أو تضعضع:
أنى أذل لمخلوق على طمع ..... هلا سألت الذي أعطاه يعطيني
فقطعة من غليظ الخبز تشبعني .... وقطرة من نمير الماء تسقيني
ورقعة من غليظ الصوف تسترني .... حيا وإن مت تكفيني لتكفيني
نعم علموا أن الله وحده الذي يخشى ويرغب إليه، ووحده الذي تحنى له الهامات والجباه، فأطلقوها صيحة مدوية ضد أي مساس بالمقدسات الإسلامية التي على رأسها بالطبع القرآن الكريم والمحاضر القرآنية.
في حين وجد في هذه الحادثة المخزية عبيد الدرهم والدينار ميدانا فسيحا للتسابق في حلبة التزلف والتملق، إذ يتقنون جيدا فن السباق عليها رجالا وركبانا، فهم سادتها وفرسانها المغاوير، متخذين من تبريرها وتزيينها جسرا سريعا إلى مآرب ومطالب طالما سال لها اللعاب، واشرأبت إليها الأعناق، وتاقت إليها النفوس. فهبوا إلى ركوب صهوات الجياد التي ألفوا امتطاءها في سباق مرتوني منقطع النظير، باذلين وسعهم في تصوير المؤسسات القرآنية حانات خمر ودور فاحشة، آن لها أن تغلق في عهد رئيس العمل الإسلامي العادل، ومبرزين أن القرار التاريخي الشجاع الذي تم اتخاذه في هذا الشأن لا يقل أهمية عن غزوة بدر أو فتح مكة أو وقعة عمورية، وأن إنكاره جر البلاد إلى أتون الفتنة ومنزلقات الحروب الأهلية: "كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا". تعسوا وانتكسوا، متى كان الشعب الموريتاني الأبي المسلم راضيا بالانقضاض على دور القرآن الكريم حتى تخشوا انقسامه على نفسه في حادثة كهذه، بل إن كل إساءة إلى الدين أو استهزاء بمقدساته يزيد اللحمة الوطنية اتحادا وانسجاما، والنسيج الاجتماعي اتفاقا والتحاما.
ولو كان أولئك المساكين أهلا للشهادة لاستشهدناهم على بطولات الشعب التي أودت بولي نعمتهم الأسبق، حين سولت له نفسه القضاء على هدى الله. أما آن لكم يا أصحاب الجيوب المنتفخة والألسنة الهذاءة أن تقنعوا بما أحرزتم من وافر المال والامتيازات من غير استحقاق؟ إلى متى هذا الدوران الزئبقي في فلك الأنظمة العسكرية الجائرة الحائرة الخائرة؟ ألم يكتف هؤلاء المتفاقهون بإثم السكوت على هذا المنكر الفظيع والباطل الصريح، حتى يتجاوزوا ذلك - وما أعظمه! - إلى المشاركة القوية في تسويغه بالدعاية الإعلامية والفتاوى المضلة؟ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت أهله، حتى إذا مات العلماء ولم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فاستفتوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". الصحيحين.
عهدنا بهم أبواق دعائية وطوابع بريدية وليسوا حماة قانون، فما بالهم يبحثون عن الثغرات القانونية في مؤسسات قرآنية مرخصة من قبل الوزارة المعنية، ورخصها قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : "بلغوا عني ولو آية ..." البخاري . ويغضون الطرف عن دور الفواحش المفتوحة حواليهم بالعاصمة في أغلب مقاطعاتها، والكنيسة التي يحرم الفقه المالكي الذي يتشدقون بالانتماء إليه بناءها في ديار الإسلام: "أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ".
أغلقت الجمعيات الإسلامية فشرعوا ذلك وأقيمت العلاقة مع الصهاينة فقاسوها مع وجود مليون فارق على معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة، صفقوا وأفتوا بحرمة التطبيع مع المحتل الغاصب، كأنه لم يحتل ولم يغصب قبل ذلك. وسجن العلماء والدعاة فصوروا الأمر جهادا وطاعة، وغيرت العطلة إلى الأحد أواخر حكم ولد الطائع فأفتوه بحرمة التعطل يوم الجمعة، ولما أعادها الرئيس ولد الشيخ عبد الله عطلة باركوا الخطوة، وصوروها إنجازا عظيما وعودة إلى المسار الصحيح، وحين ردها الحالي سيرتها الأولى في عهد المستعمر أعادوا استنساخ فتواهم الطائعية القديمة.
مالكم كيف تحكمون؟!
وهاهي القاصمة المهلكة حاقت بهم وبسيدهم، لقد أطاح القرآن الكريم بالطواغيت الذين هم أشد قوة وأعز نفرا: "من اعتصم به نجا، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره". فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأيهما كسب الرهان في نظرك؟
وفي الختام فإني أحذر قيادة هذا الوطن الوقوع في الفخاخ والألغام التي يزرعها لها الأكالون والنهابون، فلقد أوبقوا أسلافها في مهاوي الهلاك وقاع الردى، ثم تخلوا عنهم يوم أفلت شمس عهودهم، وطويت صفحات تاريخهم. وأحيطها علما أن محاولة إطفاء نور الله الوهاج ضرب في حديد بارد أعيا المعاول الفرعونية والقرشية، وأرهق الطائرات والدبابات الأمريكية، وأن الاستمرار في هذه المعركة الخاسرة مع القرآن لعب بالنار وخطر حقيقي داهم:
احذر ثعالة أن تدنو لغابتنا .... فالليث في بابها جاث على الركب
أقصر فما أنت أهل أن تصاولها .... فالحوم حول حماها غاية العطب