انكسار : كصفحة من الماء تكسرت عليها الأمواج والأضواء، وبقيت تعكس الأنين وصوره وهو يعزف في كهف الروح …ظلمة تحملق بعيني قاتلٍ، ووحشة تخيم على الظلال القريبة من أنفاسها الحَرى … ترى النور بقلبها حين يسدل العماء ستارته ويحرمها رؤية الكون ..ولما تذوب آخر شمعة من الذكريات سيحملها غيم دخانها لتبتلع حاضرها وتعيشه دون أن يطرق بابها غريب يبعثر آثار أقدامه على عتباتها ويرحل …مازال الضوء يتسلل ويلامس زهرات المكان التي كانت تفيض عليها من الماء لكنها ما أحست برائحتها يوما ما، تماما كما هي الحياة كلما أفضت عليها بنقائك أردتك قتيلاً .
تستيقظ مختنقا بخيوط الفجر وتعد ساعات نهارك لتفك عن نفسك قيد النهار، وسرعان ما تزيله لتغرق في غيابات الظلام …لا النهار يشفيك ولا الليل يمحو ما يشقيك، تتسع الأرض بقلوب الموتى، وتضيق بنبض الأحياء .
الرمال ما زالت تسف جوع روحك للجلاء، وأنت تائه في صحارى البلاد، ويلاحقك الجلاد، ليطوي المسافات أمام طريق عودتك، ويخفيها خلف روابي النسيان البعيدة .
لا تنسَ أن الخِيام المقامة على الأوتاد الصغيرة ستظل شاهدة على أن العربي هو من اختار درب الرحيل لمرتين: مرة ليبحث عن الماء والكلأ وأسباب الحياة، وأخرى خشية على روحه أن تمزق أشلاء وهروباً من بندقية الظالم والمحتل، لكنه في المرة الأولى ما اختار الرجوع واكتفى بالبكاء والتباكي على أطلال المكان، في حين أنه في المرة الثانية اعتصرت روحه بمرارة الفراق وبقي يحلم في العودة.
في قوانين العالم جمعاء الحلم حق مشروع، وحق العودة ما زال معلقاً بين يدي المصالح حيث تكون …لمَ ننام ؟ ألم نكتفِ بالأحلام؟ أما فينا عبد صالح يرى رؤيا ويبشرنا بالقيام وغيرنا نيام؟!
تذكر أنهم لم يدعوا شيئاً لم يساوموك عليه، حتى ما مات من البحار نازعوك فيه، فدع مِلحَ كلامهم، وأذب روحك في حق وجودك على أرضك، وكن حيث لم يريدوا لك أن تكون …كن كما تحب أن تكون …
يوماً سترى البحر يفتح عينيه ليراك محلقاً في سماء الحرية …وغيرك مطوق بذراعي الهزيمة والزوال …هذا ليس حلماً كما حاولوا أن يقنعوك …أنت موجود، فكفاك من العهود، وكثرة الوعود التي أكثرها مردود .
اعكس الحلم سيصبح ملحاً … فحسبنا ما ذاب من كرامتنا في ملح أحلامنا …آن أن نوصد الأبواب على كثرتها ونشرع أنوار الروح وننادي دون يأس أو قنوط ذواتنا المغتربة : عودي رغم كل المآسي .
مغالبة الحياة
كانت خطواتها مثقلة بصدى أوجاع المكان، أرادت أن ترسل قلبها هدية إلى السماء لكن الغيوم السوداء حالت بينها وما أرادت، وأمطرت في نفسها فيضاً من الأحزان القديمة …حين تصبح أحلامك لعبة بأيدي الكبار لا تستغرب المتاجرة فيها.
كم صافحنا من الضحكات المراوغة التي علت الوجوه، وكنا معبدين لطريق الألم خلف كل صفعة تلقيناها ونحن نحاول النهوض وما لبثنا أن خررنا صعقين من هول الخذلان والتخلي .
أصبحت حياتنا كأرقام لا مجموع لها أو قيمة، كل ما يعنينا فيها هو عدم الخسارة بكل ما نملك من الجسارة … تمر بنا الأيام مودعة دون أن تلقي بالاً لصوت الوجع فينا، كنا بحاجة إلى أقل من بضعة سنتيمترات لنرى ذلك الضوء الباهت الذي أشعلته فينا مرارة الأيام …نفتش عن معول كبير كي نحطم الآثار المتبقية، لا وقت لتخليد ذكرى الحطام، فالساعات تراقصت بجنون متناسية يد الإنسان التي مدت إليها مراراً لتوقفها.
في المساء تطوي النجوم أسرارها، وتحترق ألماً لتضيء لغيرها أملا … كل الضجيج يذعن لهدأة الليل …ولا صوت يعلو سوى صوت القلب الذي يظل يحرس أحلامه من الضياع.
إلى متى سنبقى نجني قطاف ما لم نزرع من الأوهام والأكاذيب، ونحمل أوزار الآخرين، لسنا طيورا تحلق بأجنحة المتسلطين، وما حبسته عنا الأعوام من الكلمات لم يطفئ قنديل الحق، والحي القديم مات أهله لكن شوارعه بقيت مضاءة ومتسعة بالجراح، تهب نسائم الحياة وسرعان ما تضيع بين الجسور المعلقة على أذناب المذعنين، ويتيه المحامون وهم يبحثون عن دلائل تدين المجرمين، وتُرفَع جميع القضايا إلى السماء، وتضيع العدالة إلا عند رب السماء .
نم قرير العين
تطيلون نظراتكم الحانقة على زهرة لم تينع بعد، وتسقونها بما يحلو لكم من الظنون الآثمة، وتنامون حالمين على ألوانها، وفي الصباح حينما يلوح الفجر لكم بعينه البيضاء، تسارعون بلملمة أحلامكم، وتنطلقون لتدوسوا على قلب زهرتكم النائمة، تفتح الأرض فاها باستحياء وتلفظ حرارتها، وأنتم تضحكون وتلتقطون ما تناثر من زهرتكم لتنشروه على خيط لؤمكم الممتد إلى حد السماء، الذي سرعان ما تتعرقل فيه الطيور المهاجرة فتتساقط بمشهد جنائزي لتقيم عزاءها على أرضكم النكراء، وأنتم ما زلتم تتطارحون غث الكلام بينكم، تغافلكم الطيور وتمد جناح الذل من زحمة جرمكم وتقول ربي ارحم من تربى على الحرية صغيرا !
٭كاتبة وأكاديمية من الأردن
هدى قزع