« ها أنذا جالس أنظر بين ركام الأرواح القديمة المحطمة والألواح الجديدة. ولما تستكمل كتابة الوصايا عليها».
نيتشه
بهذا العنوان نكون قد بلغنا شاطئ الحقيقة، ولم يعد أمامنا إلا طريق واحد يؤدي إلى التنوير وإحياء علوم العقل، ومن شدة وضوحه، لا ينبغي تسميته، بل وضعه وراء حجاب ابن عربي، حتى لا يتمكن من فقد رؤية الرؤيا أن يراه: «هذا السبيل الذي أنتهج، فأين سبيلكم؟ بهذا الاستفهام كنت أجاوب من يسألونني: أين الطريق؟ لأن لكل طريقه وليست هنالك جادة للجميع».
فمتى تأتي ساعتي؟ يتساءل الفيلسوف مستغربا في وطن لا يؤمن به، ولا يعترف بمشروعه التنويري، إنه وطن الأقزام الذين تأكلهم الشهوات، وتقربهم من الموت، ويعتقدون أن كل بحث عن عصر الأنوار قد انقضى زمانه: «وكان كل منهم يأتي على ذكر الخير وهو متجه إلى سريره طالبا للنوم الهانئ. وأنا أعلن أن ليس من أحد عرف حقيقة الخير والشر لأن المبدع وحده يعرفها، وهو من يخلق أهدافا للناس ويولي الأرض معناها ومقدراتها فليس سواه من يوجد لكل شيء خيره وشره». ذلك أن من يرتكب الشر لا يمكن أن يعرف الخير، ولا أن يدافع عنه. فهل هناك شر أكثر من حرمان الناس من استعمال العقل ونعمة التنوير؟ ألا يكون هذا الارتباط المرضي بكل ما هو قديم هو الشر بعينه؟
لا أعرف إن كانت دعوة الفيلسوف ستصل إلى هؤلاء الذين أصيبوا بداء الصمم، وأصبحوا حراسا للعدمية، يمنعون فلسفة الأنوار من الدخول. ومع ذلك نتركه يخاطبهم قائلا: «وأمرت الناس بأن يهدموا كل قديم وأن يقفوا أمام كل عقيدة هرمة ضاحكين مستهزئين بمعلميهم». ولكن عندما أمرهم بات يضحك هازئا بماضيهم المتداعي وقد تناثرت أمجاده، خاصة أنه لم يعد قادرا على حماية نفسه بالأسطورة والخرافة، لأن العالم انطلق هناك من كل قيد فالتجأ إلى نفسه: «هناك لاح لي الزمان سخرية بالأزمان المجزأة ورأيت واجب الوجود عبارة عن حرية سعيدة تداعب الحرية نفسها».
هكذا تكون الأمم التي اختارت إقامتها في الوجود وامتلكت ماهية الزمان بقوة الفكر، هي الآن من يسيطر على العالم بالعلم والتقنية، والإنسان المتفوق، أما تلك الأمم الضعيفة التي ظلت أشواقها تتدفق في الماضي وآلامه، فإنها تفسر كل ما كان بما كان، وتتمتع بحميمية ركام الألواح القديمة المحطمة، ولم تترك فضاء حرا تولد فيه الحقيقة، ولذلك يجب تحريض كل من يتمتع باليقظة والاستيقاظ: «فهيا أيها الإخوة إلى تحطيم الألواح القديمة إذا كنتم تفتشون عن مبدأ المعرفة».
احتراما للمبدأ البرهاني الذي يقول: إذا أنت أردت فقد قررت. لكن متى سيريد هذا الشعب المقهور لكي يقرر؟ بل ما الذي يريده الآن؟ هل يأمل في الانعتاق من العبودية والهيمنة السياسية والدينية؟ هل يريد أن ينعم بعصر التنوير والمعرفة والعلم؟ أم انه سيعيد قراءة ما كتب في تلك الألواح القديمة على محور العرافين والمنجمين؟
فإذا رأيت المعابر منصوبة فوق مجاري المياه والجسور معقودة فوق الأنهار، فهل تصدق من ينادي بالثبور وينذر بالغرق، أم أنك ستصدق العلماء الذين فكروا في بناء هذه المعابر من أجل الحفاظ على حياة الناس، هكذا هو حال السياسيين الذين يكذبون في واضحة النهار، بغية نشر هيمنتهم على تلك الأرواح البريئة، والاستسلام لأيديولوجيتهم الظلامية، ومادام أن الحقيقة تخشى تزاوج الوقاحة وسوء الظن، وأخلاق العبيد، فإنها تترك مكانها للأوهام، بل أن الحقيقة تقتل نفسها حين تتعرف على الوهم كأساس لها. وعندئذ تترك هذه الأمة تغرق في المياه بلا معابر، ولا قناطر تربطها بالأمم الأخرى، إنها تعيش صدام الأديان، بدلا من صراع الحضارات. لأن الصراع يقوي والصدام يقتل. فهل بإمكان فلسفة الأنوار أن تصبح المنقذ من الانهيار؟ وكيف يمكن أن تتحرك وهي مقيدة بالسلاسل؟ وهل تستطيع أن تقاتل وتقاتل إلى ما لانهاية؟ يا لشقاء هذه الشعوب التي تستهلك ماهيتها عبر كل هذه السنين معتقدة في أن التحرر من عبودية الأشخاص هو بمثابة ثورة على المقدس، ولا تدرك أن تقديس السادة ما هو إلا قتل لحقيقة الحياة، وفراغ للوجود من معناه: «إنني لأشعر بإشفاق على الماضي وقد أصبح متروكا مهملا، معرضا لما سينشأ في الأجيال الآية من اعتبار وتفكير، فإن هذه الأجيال ستصطنع لنفسها جسرا من كل قديم مضى عهده»، ولذلك يتعين على هذا الشعب أن يقوم بتحطيم هذه الألواح القديمة، ويركب سفينة التنوير التي ستنقله إلى شاطئ الحقيقة، أو بالأحرى إلى جزر العداء، حيث العلم والتقدم والحرية والمساواة والكرامة ينتظرونه، بيد أن صناعة هذه السفينة يتطلب إرادة طيبة تؤمن بالمعرفة كأداة للحوار ونشر المحبة، بدلا من هذه الكراهية العقائدية التي أضحت تهدد الأرض بالدمار، وذلك: «أن الجهل والأحكام المسبقة هما مصدر الجرائم كافة، ومنبع جميع المصائب التي تحل بهذا الشعب. والأمم التي يسودها الجهل والأحكام المسبقة لا تحافظ طويلا على عظمتها ووجودها، وأول ما يصطدم به تقدم الأنوار والعقل هو نفوذ الدين، والهيمنة السياسية».
فثمة لحظة مضيئة في حياة الشعوب هي التي تساعد على انتشار الأنوار، كما تنتشر الشهب اللامعة، بيد أن التوجه العقلاني للدولة، ودعم الأدبيات السياسية، يقودان إلى اكتمال الفكر وتوسع معارف الناس. ومع ذلك فإن الأنوار لا تفرض نفسها إلا بعد صراع حاد وعنيف تدور رحاه بين قوى الظلام والقوة المتطلعة إلى انتظار الحقيقة: «ففي الأخلاق كما في السياسة، تحتم المصلحة على الإنسان أن يعترف بصحة مبدأ من المبادئ أو بعدم صحته.. ولئن أجمع الناس على التسليم بصحة البراهين الهندسية، فلأنها تمس حقيقتهم».
الواقع أن السلطة الاستبدادية تمنع انتشار الأنوار، وتتحمل مسؤولية أفول المجتمعات في الظلام، ولذلك فإنها تخضع لمعادلة الإرهاب ينبثق عنه الإرهاب، فباعتقاد هذه السلطة أنها تقوم بإلهاء العقول عن الأنوار والحرية، من خلال استبعاد الشعب، فإنها أوجدت الحركات الجهادية، التي تستغل الإدراك المنحدر. لأن الحاجات هي المحرك الوحيد للوجدان: «فالتجربة تدلنا على أن القول الفاصل في القضايا الأخلاقية والسياسية هو للقوة لا للعقل، لأن الرأي العام هو الذي يحكم». فمن حق هذه الشعوب أن تنتفض ضد الجهل، لكي تفهم أن التاريخ، باعتباره سيرورة تتحكم بها قوانين، ذات طابع جدلي، وهذا ما يسميه ماركس بجدلية التاريخ التي تنتج الجدلية المادية، أي الصراع بين الطبقة البروليتاريا والطبقة الرأسمالية، وفي هذا الصراع يتحدد مصير الأمم، ويؤدي إلى حتمية انتصار الحقيقة، وهزيمة الاستبداد السياسي والديني، لا تقدم الفكر البشري يرفع المجتمع إلى الكمال، والإنسان إلى مواطن يطلب الحق في التنوير والسعادة.
هكذا الإنسان الذي يحارب التنوير ويشيد الاستبداد هو نفسه، الذي يقوم بنشر الأنوار وهدم الاستبداد، ولكن حين يضع نفسه رهن إشارة فلاسفة الأنوار، فالأمم تخضع لجدلية التاريخ مهما طال الزمان، ولذلك أنه من العار أن تظل هذه الأمة ثابتة في الزمان، أمة تقبل أيدي الاستبداد، وترعاه باسم المقدس. فتنامي الاستبداد سواء السياسي أو الديني لن يسمح بانتشار الأنوار، وستظل الحاجة نفسها، والعلم العربي هو ذاته، يدمر نفسه بنفسه بأسلحة يشتريها من أولئك الذين استثمروا الأنوار وفكوا الحصار عن شعوبهم، ومرروهم من إرهاب الكنيسة، وشراسة الأعيان، أو النبلاء. لا يمكن أن نختصر مشروع التنوير في ثورته على الهيمنة السياسية، وتغيير نظام قديم بنظام جديد، بل أنه هدم وبناء للبنية الفكرية والاجتماعية، ذلك أن الانتقال من القصور الفكري إلى الرشد، معناه، تحرير الفكر من العدمية ليصبح موجوداً. وبلغة هايدغر، الفكر والوجود هما الشيء نفسه، هكذا سيتحول في الماهية، أنه الفكر الذي يفكر في ذاته بعدما تحرر من وصاية الاستبداد المقدس. وبما أن الفكر والحرية وجهان لعظمة العصر، فإنه من المستحيل تصور القوى المحركة للتطور الاجتماعي خارج التنوير الذي يوفر الثورة الإنسانية. لأن تقدم الفكر هو نفسه تقدم المجتمع، وهذه هي مسلمة فلسفة الأنوار.
كاتب مغربي
عزيز الحدادي