“حين تخرج الأحداث عن سيطرتنا، فلنا أن نعطي الانطباع بأننا نحن من حرّض عليها.” جان كوكتو
ـ1ـ
لا يمكن لأيّ استقراء، مهما كان خاطفا، للسّياق الدّاخليّ والخارجيّ لعوامل وجذور الحركات الّتي أُطلق عليها الرّبيع العربيّ أن يتجاهل أنّ هذه الحركات والأحداث يمكن أن تتمّ مقاربتها من حيث اقترانها من أوجه معيّنة مع إعادة التّرتيب الّتي تعرفها التّحوّلات الجيوستراتيجيّة الحالية. وواضح أنّ القوى الدّولية الجديدة أو الصّاعدة (في آسيا، في أمريكا اللاتينية إلخ) وتموقعاتها على خريطة التّوازنات المتشكّلة تمثّل كلّها عناصر غير غريبة عن السّياق الّذي عَرفَ هذه الموجة من الانتفاضات الشّعبيّة أو الثورات. هل يعني ذلك تزامنيّا أنّ ما سُمّي بالرّبيع العربيّ يمثّل مؤشّرا بين مؤشّرات أخرى يمكن أن تُعتبر دليلا على تراجع وتقهقر القوى الدّولية التّقليديّة الّتي تُسمّى عادة، بصيغة غير دقيقة، “الغربيّة” ؟
ـ2ـ
الواقع أنّ أغلب ـ إن لم يكن كلّ ـ دول ما كان يطلق عليه خلال الحرب الباردة “العالم الثّالث” هي من حيث هي دول ( نسق الحكم ، الحدود الترابية ومرادفاتها في التركيبة الديمغرافيّة، الجهاز المعياري وآلية إنتاج النخب إلخ) موروثة عن الاستعمار. بعبارة أخرى فإنّها دول تمّتْ بَنْيَنَتُها من حيث هي دول، أي من حيث أنساق السّلطة و”نخبها” والمفرات السّياسيّة والتّمثّلات والانقسامات المفهوميّة الْمُحايِثَة لها، ككيانات سياسيّة تمثّل استمرار الحضور الاستعماريّ أكثر ممّا تمثّل الزّمن السّياسيّ والاجتماعيّ لتاريخيّة ما خاصّة بشعوبها. إنّها بشكل مباشر غالبا، وغير مباشر أحيانا، تمثّلُ ارتباط المنظومة الهيمنيّة المحلّيّة بالمنظومة الهيمنيّة في عواصم الإمبراطوريّات الاستعماريّة السّابقة. إنّها دول تمثّل بشكل من الأشكال إقطاعات استعماريّة ملحقة ـ أو شبه استعماريّة ـ من حيث إنّها لم تعد تماما جزءا من الإمبراطوريّات الموروثة عن القرن التّاسع عشر الأوروبّيّ وليست تماما خارجها. من هنا فإنّها دول تتموقع سياسيّا بما يمكن أن نسمّيه بالهامش الجيوستراتيجيّ وذلك من حيث إنّها تركة تاريخ قيد استهلاك نفسه ولكن لم يتمّ تماما تجاوزه بعد. وهو ما يجعلها كيانات دولتيّة غير مكتملة البَنْيَنَة.
ـ3ـ
هل معنى ذلك أنّ الرّبيع العربيّ أو ما سمِّي كذلك هو إعلان عن نهاية الدّول العربيّة من حيث هي كيانات مرتبطة بالمرحليّة الّتي تسمّى بَعْدَ الاِسْتعماريّة أو استعماريّة مُحْدَثة ؟ بعبارة أخرى هل إنّ تراجع المكانة الدّولية للقوى الّتي تسمّى “غربيّة ” تعني بالضّرورة مستوى ما من تقويض الكيانات السّياسيّة الموروثة عن هذه القوى، أي هل يعني ذلك أنّ النّموذج البِدْئيَّ للدّولة المابَعْدَ اسْتِعماريّة أو الاستعماريّة الْمُحْدَثة كنموذج مهيمن فيما كان يعرف بدول العالم الثّالث قد وصل إلى نهايته واستُهْلِك أو هو قيد نوع من انتهاء الصلاحية ؟
ـ4ـ
غير أنّه من السّهل الاعتراض على الخلفيّة الّتي تؤسّس لهذه الأسئلة. فيمكن مثلا أن ننظر إلى “الرّبيع العربيّ ” على أساس أنّه من منظور معيّن يعلن عن عودة بالغة الضّجيج لمختلف الأنظمة والأنظمة البديلة في العالم العربيّ إلى الحاضنة الاستعماريّة الأوروبّيّة – الأمريكيّة. إذا أخذنا الاعتبار الأخير على محمل الجدّ يُمْـكن أن ننظر إلى الرّبيع العربيّ كآخر محطّة من مسار انطلق على الأقلّ منذ نهاية الحرب الباردة وأخذ، خطوة بعد خطوة، يضع حدّا للأنظمة الّتي بدتْ وكأنّها قد تحرّرت جزئيّا من هيمنة الامبراطوريّات الاستعماريّة السّابقة ووريثها الأمريكيّ. وواضح الآن أنّ مختلف هذه الأنظمة، باستثناء حالات لها خصوصيتها، تمّ القضاء عليها واحدا تلو الآخر. وفضلا عن القضاء مادّيا على هذه الأنظمة، فإنّه تمّ توظيف تَرسنات إيديولوجيّة ضخمة موازية للتّرسنات العسكريّة للقضاء عليها رمزيّا واعتباريّا.
ـ5ـ
يلزمنا هذا في مقابل هذا الطّرح أن نتساءل على مستويين: من جهة، هل تختلف جذريّا أنظمة الدّول العربيّة الّتي سُمّيت اشتراكيّة عن بقيّة الدّول العربيّة فيما يتعلّق بعلاقتها مع الامبراطوريّات الاستعماريّة السّابقة؟ أمّا الثّاني، فيتعلّق بالدّلالة العامّة لمسار الرّبيع العربيّ: هل هو نهاية الدّولة الْمَابعدَ استعماريّة كمسار محايِد لتراجع دور القوى التّقليديّة الأوروبّيّة والأمريكيّة على الصّعيد الجيوستراتيجيّ أم يعني عكسيًا تعزّزَ حضور الامبراطوريّات القديمة في العالم العربي وتقويض بؤر مقاومة هذا الحضور ؟
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل