شعراء ونقاد عرب: الجميع يبحث عن نصه الخاص

سبت, 2014-07-19 01:23

 يحاول بعض الشعراء تجاوز ما يعرف بالنص التقليدي الذي يجمع في طياته القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، ويحاول البعض الآخر أن يدرج ضمن هذا النص- التقليدي- قصيدة النثر، للخروج بما يُعرف بالنص الجديد، هذا النص الذي حاول عدد من الملتقيات أن يشتغل عليه ويؤسس له، وعلى وجه الخصوص المؤتمر الذي عقدته مؤسسة أروقة فيالقاهرة العام الماضي.
المؤتمر خرج بعدة توصيات وتوصيفات لهذا النص، وربما أن أهم ما يميز هذا الجديد غياب مفهوم القارئ والكاتب نهائياً، فالاحتكار الذي شجبته قصيدة النثر وناضلت لإنهائه صار اليوم في حكم المنتهي، وأصبح مصطلح الغرض الشعري أكبر من أن يكون مديحاً أو هجاء، بل اندمجت كل الأغراض في بعضها وظهر غرض أكبر وأعم هو الكتابة عينها.
من جانب آخر يتبلور النص الجديد بعيداً عن المجانية والتهديف معاً، ولأنَّ الآلة أصبحت شريكاً فاعلاً في كتابة النصوص وليس مجرد وسيلة أو وسيط فقد أصبح الوعي بالنص الإلكتروني حقيقة واقعة تجعل من النص الجديد بالضرورة نصاً تفاعلياً، خارج الزمن وأكثر يومية من اليوميات وهو مع ذلك نص شعبي يتلبس الشاشة، والورق معاً، بمعنى أنه نص مزدوج الكتابة والتلقي، وينطلق من رؤى صعبة التلخيص، يتجلى في أربعة أنواع من النصوص (حتى الآن على الأقل)..
في استطلاعنا هذا، حاولت «القدس العربي» الإجابة على عدد من التساؤلات حول هذا النص، منها: كيف نقرأ ما يُعرف بالنص الشعري الجديد؟ وما آليات اشتغاله؟ وهل هناك تقنيات خاصة تختلف عن لغة وبناء قصيدة النثر العربية المعروفة؟

تشظيات النص القديم
الناقد البحريني جعفر حسن يبدأ قراءته من خلال قصيدة النثر العربية، مبيناً أنه يفترض الدخول نحوها من خلال تلك الآلية التي يقوم بها التواصل بين المتلقي والنص، عبر ملء الثغرات التي تقوم من خلال الصورة التي عادة ما توجد علاقة تباعدية غير منطقية بين الأشياء التي رغم ألفتها تبدو غير ذات صلة مما يخلق ذلك الفراغ الذي تذهب نحوه المخيلة لتجسير تلك العلاقة عبر تصور يقوم في الذهن مغاير عما هو مألوف، بل يبدو أن قصيدة النثر الجديدة تفرض في عملية التلقي مسألة إعادة القراءة، كما أن الذهاب نحو ما يبدو سهلاً من حيث التراكيب اللغوية، عادة ما يحمل في داخله استخداماً غير مألوف يجعل العبارة مشحونة بدلالات أكبر مما تبدو للوهلة الأولى، ولعل ذلك ما يقوم عبر تقنيات القصيدة.
ويضيف حسن: ان مسألة كون القصيدة تحمل حساسية جديدة، تظهر في جملة جديدة، عبر كمٍّ لا بأس به من المنتج المطروح على الساحة الأدبية، على الرغم من تصريحات لبعض الشعراء الذين يمارسون قصيدة التفعيلة في غالبية إنتاجهم، إذ يصرحون بأنه لا توجد جملة جديدة في قصيدة النثر يمكن اعتبارها تثير حساسية جديدة في جماليات التلقي، ولكن ذلك يظل شأنهم، على كل حال من لا يستطيع استشراف الجديد فيما يقدم وتلمس طرق بنائه ربما سيظل يراوح في مكانه الذي ارتاح إليه.
ويبدو أن الجديد، من وجهة نظر حسن، يأخذ مكانه عبر تعديل تقنيات الشعرية العربية، «لا ننسى أن للشعرية العربية تقاليد قارَّة وإن لم يكن لقصيدة النثر مثال يحتدى به، إلا أن كتابها يصرّون على عدم وجود ذلك المثال بصورة قصدية، ولعل من أهم التقنيات الحديثة للنص الجديد هي بناء فخاخ الجمل عبر خلق الدهشة ضمن فضاء القصيدة التي تأخذ المتلقي ليقع في تلك الدهشة ليعاود القراءة بغية فتح مغاليق جماليات قصيدة النثر». مشيراً إلى أن الاختلاف قائم منذ اللحظة التي تواكبت مع ترك القديم الذي تشظى في اتجاهين عبر قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر التي تخلت عن التراكيب القديمة وتخلصت من دائرية العمود التي مثلت القافية رتاجها.

الكتابة المفتوحة
يبحث الشاعر والناقد علي حسن الفواز عن مسارات قد يأخذها الحديث عن توصيف النص الشعري الجديد تتعالق بأسئلة الحداثة وطبيعة فروضها الضاغطة على الوعي والكتابة والتداول، وقد يتمثل أيضاً إلى افتراضات مفهومية أو تقانية، تلك التي تضع النص في سياق إجباري للتغاير والمفارقة، تحت وهم التجاوز، أو الرغبة بإعادة هيكلة القصيدة العربية لأن تكون (نصّاَ)، أي تمثلّها لأشكال الكتابة المفتوحة. لكن على الرغم من ذلك يظل هذا النص المثير للجدل رهيناً بوعي الشاعر، بوصفه وعياً إشكالياً قلقاً، متعالياً، شكاكاً بمفهوم الجدّة، وبأسئلة الحداثة الملتبسة، وعياً مضطرباً إزاء نرجسية ما يكتبه، وإزاء غواية ما يستلذ به عبر القراءة، بوصف أن هذه الكتابة تصطنع لها قارئاً يضعه نفسه أمام (مساحة) غير منضبطة، كتابة خارجة عن رهاب التاريخ والنسق إلى استيهامات الذات..
ولا يجد الفواز ترسيماً محدداً أو حتى توصيفاً منهجياً لما يسمى بالنص الجديد، لان هذا النص المتورط كثيراً بـ(أوهام الحداثة) كما سماها أدونيس، سيكون هو النص (التذويتي) من الذات المتشكلة في مجرى التحولات، والمتضخم في سياق لعبة الشاعر الفادحة للمناورة أو المغامرة.
ويضيف: ولعل قصيدة النثر التي كثيراً ما توصف بأنها الشكل النهائي لكتابة هذا النص، ستكون في مأزق إزاء نزوع الشاعر الدائب (لتذويت) كتابته، لان هذه الكتابة ستفضي بالشاعر إلى تجاوز البنى النثرية ذاتها، وإلى الانغمار في ما يمكن بتسميته بـ(الكتابة المفتوحة)، تلك التي تشتبك فيها الكثير من الوحدات الشعرية والسردية، مع المجاورات التي تنطلق من الشفاهية والأسطورية والأنساق المضمرة في المهمل والهامشي واليومي، وحتى البصري والسحري.. هذا النص(الملفق) أو (اللقيط) هو أكثر الأشكال تمرداً على جنسانية الكتابة، وأكثرها تعبيراً عن تمرد الشاعر على قداسة الكتابة المكرسة بالاستعمال، وعلى مدونات الحبس التاريخي، وربما سيكون أكثر الأشكال إشهاراً بوعي الشاعر إزاء محنة اللغة ذاتها، تلك التي قال عنها فيتجنشاين بأنها مكمن التفكير، مقابل ما قاله فيها نيتشه بأنها مكمن الأوهام أيضاً…

غوايات مجانية
في حين يرى الشاعر المصري فتحي عبد السميع أن النص الشعري الجديد تجاوز مرتكزات قصيدة النثر العربية، حيث الحفاوة باللغة، والمجاز، وتعويض غياب الأوزان والقوافي بالصور، والتركيبات اللغوية، التي تميزت بجموح الخيال، مع بقدر كبير من التعسف، ظهرت آثاره السلبية مع مشكلة الغموض، واللعب باللغة الذي وصل في حالات كثيرة إلى غواية مجانية، وغيرها من الأمور التي جعلت الشعراء التاليين، يراجعون تلك التجربة، ويواصلون البحث عن آفاق أرحب للشعر، وقد أسفرت تلك الجهود عن ظهور نص جديد، سمته الأساسية هي الانفتاح الواسع على العالم والحياة، وكل ما يمكن أن يثري النص الشعري، ولم تعد هناك ثمة قواعد أو معايير صارمة، أو نظرة متطرفة لعنصر من العناصر التي ارتبطت بمسيرة الشعر، وصار النص يكتب نفسه، ولا يكتبه الشاعر فقط، كما صارت كل تجربة تبحث عن شكلها الخاص، وتحاول بلورته ذاتيا، وانفتح باب المغامرة إلى آخرة، وصار الشاعر حراً تماماً في الوصول إلى نص ثري ومدهش ومفعم بالحيوية والحياة، وليست تلك الحرية مطلقة كما يتبادر إلى الذهن، بل هي مشروطة بتوفير أنسب مناخ للشعر كي يتفتح ويتدفق في ظل حراسة من مهارات الشاعر وثقافته، لا في ظل وصاية، أو رغبة في لي عنق الشعر. 
ويعتقد عبد السميع أن جوهر النص الجديد يرتبط بالإخلاص إلى ذلك الجزء المهم من الهوية البشرية، ذلك الجزء الذي يكشف عن تفرد الذات وخصوصيتها، وعدم تطابقها مع أحد، وهذا الجزء في تقديره هو منبع الإبداع، وهو المُستهدف بعملية تحرير المبدع، ففي تفرد الذات يكمن الجديد والمدهش، ومنه ينطلق الفن الحقيقي، وبالطبع لا ينفصل ذلك الجزء المتفرد عن هوية الشاعر ككل، حيث تلحم فيها هويته الثقافية، وهويته الإنسانية عموماً، وهذا يعني أن نجاح النص الجديد يرتبط بخصوصية الشاعر، وخصوصية لغته، وصوره، وعالمه الشعري ككل، وهذا هو ما يضع النص الجديد أمام تحديات أكبر، وأكثر صعوبة من تلك التي تضعها قوانين الوزن، والقافية، أو معيار مثل معيار المجاز والتراكيب اللغوية الجامحة.

الشعر خارج النخبة
يتحدث الشاعر العراقي سليمان جوني عن قوانين شعرية جديدة، إذ لم تُكشفْ قوانين مرحلة شعرية ما، مثلما هي الآن، وربما على غير العادة أيضاً، فإن الكشف لم يأتِ عن طريق عمال المعرفة «النقاد»، إنما جاء بفضل انتهاك فكرة القداسة التي كان يتمتع بها، والتي تسللت إليه من جذره المرتبط بالدين والكهانة، وانتهاك القداسة هي التي جعلت منه لعبة يمكن تداولها بين العامة ومن ثم العبث بقوانينها ومن ثم كشفها، وربما يكون الفضل في كلّ ذلك إلى كسر حاجز الرعب من النشر والذي أتاحته شبكات التواصل الاجتماعي، بحيث إن أي نقد رافض يمكن أن يوجه إلى نص ما، سرعان ما يتم تبريره باعتباره كتابة شخصية لا تقصد الشعر، ولكن سرعة قبوله لدى الآخر «القارئ المحايد» هي التي جعلت المشتغلين بالشعر ونقاده يكتبون وثيقة الاعتراف به بأنفسهم، وهكذا يمكن وصف هذه المرحلة، بمرحلة «الشعر خارج النخبة»، والتي تعني أيضاً إن الشعر لم يعد أقلية، بل يمكن القول إنه قد تسرب إلى أوردة المجتمع. والسمة الشعبية التي تَشَكلَ ويَتشكلُ بها، مكتسبة من قوانين وتنظيرات ما بعد الحداثة، التي تعلو من الفن الشعبي والعمارة الشعبية ومن فكرة إلغاء حدود الفصل بين «الجدران» أو الأنا والآخر.
وحول آليات اشتغال النص الجديد يشير جوني إلى أن ما يكتسبه النص من آليات، يأتي عادة من جينات موغلة في القدم مزروعة في خلاياه، وفيما بعد من الطريقة التي يمارس بها حياته، وهكذا فإن قيم معينة- لغوية أو شكلية- ربما كانت مخبأة في نص أو نصوص سابقة شعرية أو حتى من خارج الشعر، الحياة مثلاً، يتم الإعلاء من شأنها، لتبدو لنا هذه»القيمة» الشجرة فيما بعد وكأنها الغابة كلها، والملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن النص الجديد استعار من كاميرا الهاتف المحمول فكرة الـ»سيلفي selfie» أو ما يعرف بالصورة الملتقطة ذاتياً، ولأن طبيعة الشعر تشتغل على فكرة وجود الكائن داخل العالم، فإن النص قام ببرمجة نفسه ليأخذ صورة لوجود الكائن، ليس بمعنى عالمه الخارجي وإنما بمعنى وجوده حسب اصطلاحات الفلسفة، إنها صورة لرعبه وقلقه ودهشته وسؤاله وتشككه ملتقطة ذاتياً، إنها صورة يتم طبعها بالكلمات ولم تعد معها فكرة القياسات الجمالية القديمة تشتغل معها، فهي في النهاية صورة فقط للإبلاغ عن الوجود في مكان ما، قد يكون مكان السؤال أو مكان القلق أو مكان الدهشة.. إلى آخره. 
التقنيات التي يشتغل عليها النص الجديد كثيرة، لكن جوني يحددها من منطلقات خاصة، فشعرياً تم تعبيد الطريق جيداً، منذ بودلير وإلى اليوم، والميزة التي ينظر بها الشباب الآن، هي أنهم لم يعدوا ينظرون إلى التاريخ الشعري لغوياً، فهم ينظرون إلى نص من أميركا أو فرنسا أو اليابان كما لو أنه نصّ يعنيهم لغوياً، فهو بالنهاية جزء من إرثهم الحضاري حتى وأن كان مختلفاً لغوياً، ولذلك فإن فكرة أن نقارن بين قصيدة النثر العربية وما يكتب الآن، تبدو له فكرة ليست صائبة على الإطلاق، بل إن ما ينبغي علينا أن نشاهده، هو أن هذا النص كم يقترب أو يبتعد عن نصوص العالم السابقة بكل لغاته، عما يكتب الآن، وهكذا يمكن عقد مقارنة مع نص لـ»ايف بونفوا» الفرنسي على سبيل المثال مع نص لأي شاعر ومن أي بقعة في العالم أيضاً، ولعل أكثر ما يمكن أن نشاهده في النص الجديد هو فكرة أسطرة العالم، بحيث يتحول المعاش والعادي إلى أسطورة، وعادة ما تكتب بطريقة المذكرات أو اليوميات، وبذلك فهي تختلف عن النصوص السابقة التي كانت ترى في الفخامة- سواء صعيد اللغة أو المعنى- مرتكزاً لشكلها.

النص والتقنيات
تدور في بعض الأروقة الشعرية أحاديث عن لون جديد من الشعر يطلق عليه النص الشعري الجديد. وهذه الأحاديث تحاول أن تؤطر لهذا اللون وتضع له أسساً ومفاهيم وفلسفة خاصة به على أمل أن يجد رواده لهم موطئ قدم في الساحة الشعرية، بحسب ما يرى الشاعر والمترجم الفلسطيني نزار سرطاوي، مضيفاً أن المبشرين بالنص الجديد يرون فيه بديلاً عن الأشكال الشعرية التي سبقته، وبصورة خاصة قصيدة التفعيلة، التي رسخت أقدامها في النصف الثاني من القرن العشرين، وقصيدة النثر التي انطلقت في أواخر الستينيات منه، والتي يرون أنها تركز على البنية واللغة دون المضمون.
سرطاوي يوضح أن ظاهرة النص الجديد ترتبط بالتطور التكنولوجي المتمثل في سيطرة أجهزة الحاسوب والموبايل وسواهما من التقنيات على وسائل الاتصال، وبميلاد الفضاء الافتراضي وتوغله الكبير في حياة الإنسان على مدار الساعة، وذلك من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، فالنص الجديد على ما يقوله سدنته له ثلاثة أقانيم: الكاتب والقارئ والآلة، وقد أنتج التفاعل بين هذه الأطراف الثلاثة حالةً هي أقرب إلى التماهي، مع تفاوت في الدرجة، فكان من تجلياتها بروز نص التأسيس ـ أو النص الأم ـ ونص الموبايل، والنص الجماعي ـ أو الانفلاتات ـ والنص الرقمي. لكن هذا النص بحسب الأدبيات التي تشرحه، يقدم نفسه «باعتباره نصاً عابراً للأنواع والفنون، مستوعباً إياها تارة ومتجاوزاً إياها تارات، فهو نص عصي يكون على التصنيف»… ما لا نستطيع فهمه هو: كيف يكون هذا النص مختلفاً لمجرد أن صاحبه يرسله على الموبايل؟ ألا يمكن أن تصلنا على الموبايل قصيدة عمودية– مع أن القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة كلتاهما مطرودتان من جمهورية النص الجديد. وكيف للقارئ والآلة أن يساهما في مثل هذا النص؟ وهل يتشكل نص جديد غير الذي بدأه الشاعر صاحب المبادرة؟ وهل يختفي صاحب المبادرة ليصبح لدينا نص أشبه باللقيطة لا يعرف له أب أو أم؟ وهل يصبح كل ما يكتب على صفحات الفيسبوك والتويتر نصاً جديداً بغض النظر عن اللغة والنحو لمجرد أننا دخلنا العالم الافتراضي سواء كنا نحمل الدكتوراه أو شهادة محو الأمية؟ نحن مع التطور والخلق والإبداع والحرية والتجديد. نحن مع استخدام الآلة ولكننا لسنا عبيدا ولا زملاء لها. نحن مع التفاعل ولكننا في الوقت نفسه نؤمن بفردية الإنسان.
ويطرح سرطاوي سؤالاً يختتم فيه كلامه: هل ستكون هناك مرحلة نطلق عليها «ما بعد النص الجديد» تليها مرحلة ما بعد البعد؟ لعل هذا السؤال يرقى إلى النبوءة. لكنه مع هذا يترك هذا السؤال معلقاً بانتظار من يجيب عليه في المستقبل القريب.
النص الشعري الجديد، بحسب ما يرى الشاعر العراقي مكي الربيعي، أشبه ما يكون بقدر مفتوح على جميع الاحتمال، ولذلك لم تعد الظواهر الطبيعية، ولا حتى تلك التي لا تمسكها العين، كافية لأن تضعهُ بين هلالين. مبيناً أن النص الشعري مرَّ بتجارب متعددة، انتهت بهِ عند بعض الشعراء المحدثين إلى استخدام الإشارات والتهويمات الغامضة، وحتى التنقيط في بعض الأحيان، واستخدامه (أي التنقيط) كفراغ يمكن أن يشرك المتلقي في كتابة النص، فيقوم بوضع ما يشاء من الكلمات في هذا الفراغ. يرى البعض أن انتقال النص الحديث من لغة الشعر العربي القديم إلى لغة أكثر حداثة، هي بمثابة كسر الجمود وهد الجدار، للخروج إلى النور، وهذا الرأي فيه بعض من الحقيقة وليس الحقيقة كلها، حيث ليس بالخروج على السائد من اللغة يمكن أن يتحقق الغرض، وإنما في كيفية توسيع هذا الخروج، والتمدد بهِ نحو تناول ما لم تجرؤ اللغة على تناولهِ، ويقصد الربيعي بهذا الذهاب نحو القص، التشكيل، الموسيقى، السينما، المقالة، الرواية، النكتة، (وحتى استخدام الكولاج والقص والتلصيق، باختصار استخدام الكون والحياة معاً وإدخالهما بكل ما فيهما من تناقضات في عملية بناء النص. ولهذا، لم تعد النظرية البنيوية، ولا حتى ما بعد البنيوية، كافيتين لقراءة تأويلات النص، باعتبار أن (حقيقته تكمن في قراءتهِ)، هذه النتيجة التي يريد الربيعي استخلاصها من النص الحديث، ليست سوى محاولة لتضيق الخناق على تمدد النص، الحقيقة هي أبعد من ذلك بكثير، إذ لم تعد (حقيقة النص تكمن في قراءته)، بل حقيقته تكمن في قدرته على التعايش مع الطبقات الأقل وعياً ومعرفة بالشعر وما يستبطنه، وأقصد، قدرته على خلع جمالياته على مختلف مستويات التلقي. هناك وهم كبير لدي البعض، حينما يعتقد أن الغموض هو القوة الدافعة لأن يعيش النص وقتاً أطولْ. هذا الهوس سقطت مصداقيته بتقادم التجارب الشعرية، واكتشف دعاته، أنهم يقفون على أرض جرداء لا ماء فيها ولا شجر. آليات اشتغال النص الحديث، تكمن في قدرة الشاعر، على استحضار كل الأشياء التي تقع عليها عينه، وما لم تقع عليها، حتى تلك التي تبدو تافهة في حياة الناس.

صفاء ذياب