ما الذى يجمع بين كل مجانين التكفير وجنرالات الإرهاب، لماذا تلمح فى شخصياتهم جميعًا جنون العظمة والاعتقاد بأنهم زعماء ملهمون من الله، يشتركون جميعًا فى حمل صفات الديكتاتور الدموى، لكنهم يتميزون بأنهم يعتقدون فى تأييد السماء مهما كانت بشاعة أفعالهم وجرائمهم الدموية، فى هذا الموضوع نستعرض سيرة ثلاثة من هؤلاء يمكن أن تعتبرهم علامات بارزة فى مسيرة الإرهاب وسفك الدماء، هم شكرى مصطفى أمير تنظيم «التكفير والهجرة»، ومحمد بن عبد الله القحطانى مؤسس تنظيم «السلفية الجهادية»، وأبو بكر البغدادى الخليفة المزعوم وزعيم تنظيم «داعش».
كان عمرى 18 عامًا حينما شاءت الأقدار أن ألتقى قيادات التكفير والهجرة، بسجن مزرعة طرة، لكننى كنت أدرك المعالم الأساسية الفكرية لهذه الجماعة، التى تخلى كل قياداتها عما كانوا يؤمنون به، إلا 3 فقط أودعتهم مصلحة السجون فى زنازين انفرادية أخرى.
صفوت الزينى، (يعيش الآن فى أمريكا) كان هو قائد العنبر، ولأنه كان (بلدياتى) من مدينة أبو قرقاص بمحافظة المنيا، فقد كنت أتناول معه وجبة الإفطار يوميًا، وهى فى الأغلب لا تخلو من الحديث عن تلك التجربة المريرة، التى أودت بهم إلى هذا المصير. أجمع كل من جلست معهم من مؤسسى هذه الجماعة، بمن فيهم محمد أبو دنيا وكان محكومًا عليه بالمؤبد، وفقد عقله بالسجن، وادعى أنه المهدى فيما بعد، لأنه كان من العناصر التى قتلت الشيخ الذهبى، على أن ذكاء شكرى مصطفى وعينيه الحادتين وقدرته على الجدال، هى من أقنعتهم بهذا الفكر التكفيرى.
شكري مصطفى.. النبي المشنوق
كان شكرى مصطفى الذى ولد عام ١٩٤٢، فى قرية أبوخرص بمحافظة أسيوط حاد الذكاء، لكن عقله خانه ودفعه للارتباط بجماعة الإخوان حينما كان طالبًا بكلية الزراعة، حيث انضم إلى تنظيم ١٩٦٥ بقيادة سيد قطب، وبسبب ذلك تم اعتقاله فقضى ٦ أعوام مسجونًا، وكان أصغر المسجونين الإخوان سنًا هو وطه السماوى الذى أسس جماعة أيضًا حملت اسم (جماعة المسلمين) بعد وفاة زميله شكرى.
كان مصطفى منعزلًا فى السجن، وغير راضٍ عن الهضيبى ولا قيادات جماعة الإخوان، الذين كانوا فى هذه الفترة يحاولون التصالح مع السادات، كما لا يرضى عن الضغوطات التى تعرض لها، وفى هذه الفترة تبنى الشيخ على عبده إسماعيل، وهو شقيق القيادى الإخوانى عبدالفتاح إسماعيل الذى أعدم مع سيد قطب سنة ١٩٦٦ أفكار التكفير، وأسس جماعة أطلق عليها (جماعة المسلمين)، فانضم إليه شكرى على الفور.
على إسماعيل راجع نفسه وطور أفكاره وأسس جماعة (التوقف والتبين) التى تعد الامتداد الفكرى لجماعة أنصار بيت المقدس فى سيناء، ويقوم منهجهم على التوقف فى الحكم على أى شخص بإسلام أو كفر حتى يتبينوا من ذلك، حينما يسألونه (هل تكفر بالطاغوت أم لا؟)، فإن كان يكفر بالطاغوت أى كل ما يعبد من دون الله فهو مسلم، وإن كان غير ذلك فهو مرتد، لا تجوز ذبيحته مستباح العرض والمال والدم.
وفى عام ١٩٦٩ جمع على إسماعيل أتباعه وصلى بهم ثم خلع رداءه، وقال: «لقد تبين لى أن الفكر الذى أمرتكم باتباعه هو فكر الخوارج وهأنذا أخلعه كما خلعت هذا القميص».
اتهم شكرى مصطفى شيخه على إسماعيل بالجبن والخوف، وقام بقيادة الجماعة وكان معه فى هذا الوقت طه السماوى، حيث كانا يرتبان اللقاءات للمجموعة كلها داخل مسجد سجن ليمان طرة.
لا تخلو جدران زنازين السجون التاريخية القديمة، مثل أبو زعبل، وليمان طرة.. إلخ من أشعار شكرى مصطفى، وقد رأيت كيف أن أتباعه الجدد الذين يطلق عليهم (الشكريين) ما زالوا يحتفظون بصورة كراسته التى كان يكتب فيها الشعر، فهو كان بليغًا وشاعرًا محترفًا، استخدم شعره فى ضم الأتباع والمناصرين، ومن ديوانه المطبوع (من قبل الطوفان) فى إحدى أكبر دور النشر بمصر:
اسمعنى يا عبد الله...
واخرج من أرضى واتبعنى.. فى أرض فلاة
أرضى فى قلبى لم يعبد فيها الشيطان
أرضى فى فكرى أحمله فى كل مكان
عظمها فى قلب المؤمن.. طهرها فيض الإيمان
فاحمل أوزارك واتبعنى يا عبد الله
يكفينا زادا فى الدنيا هذا القرآن
أنا لن أستسلم
سأحارب جيش الأصنام
سأكر على عرش الطاغى أهدمه فى غير كلام
سأموت شهيدًا منصورًا.. دينى الإسلام.
القيادى صفوت الزينى، قال لى: إن شكرى مصطفى، كان يرى فى نفسه إنه مجدد هذه الأمة وإنه وريث النبى، وإنه لن يموت قبل أن يعيد دولة الخلافة، ولما حكم عليه بالإعدام قال للقضاة «راجعوا ما أنتم عليه»، وأكد الزينى أنه لحظة تنفيذ الإعدام، كان الخمسة الذين أعدموا بمن فيهم شكرى يظنون أن الأرض ستنشق وتبتلع أعداءهم لأنهم جيل الله الذى سيعيد حكمه للأرض.
لم يستطع أحد أن يواجه شكرى وجهًا لوجه فى أى نقاش إلا اثنين الأول حسن الهلاوى القيادى الجهادى الذى أعلن توبته فى التسعينيات، وأمر شكرى أتباعه أن يتخلصوا منه فحاولوا قتله، وأصيب إصابات بالغة، ولما قبضوا على شكرى، رفض الهلاوى أن يعترف عليه فى النيابة، وهو ما أثر عليه نفسيًا فيما بعد.
أما الشخص الثانى الذى أفحم شكرى بالحجة، والدليل فهو الشيخ الذهبى وزير الأوقاف الأسبق الذى تم اغتياله عام ١٩٨٠، وهذا ما دفع شكرى للتخطيط لقتله، وقاد العملية رائد الشرطة أحمد طارق عبدالحليم، الذى اعتنق الفكر التكفيرى، وقام بخطف الذهبى من منزله إلى شقة مفروشة وقيده ثم أطلق النار على عينه اليسرى بحجة أن الشيطان يسكن بها!!.
كان شكرى يلقن أتباعه ما يصفه بـ «الحد الأدنى من الإسلام» والحد الفاصل بين الإيمان والكفر، ودعاهم لهجرة المساجد على أساس أنها (ضرار)، وأن المسلم هو المنتمى للجماعة فقط، وهجرة العادات والتقاليد والملابس والأزياء الحديثة، وهجرة زوجاتهم اللواتى لم يدخلن الجماعة والزواج من عضوات الجماعة المؤمنات.
على هذا الأساس الفكرى بحث مصطفى عن أرض أخرى، فاختار الصالحية، وصحراء أبو قرقاص، لتشكيل جيش بها، للهجوم على أرض الكفر «مصر»، وعين أمراء للمحافظات والمناطق واستأجر العديد من الشقق كمقار سرية للجماعة بالقاهرة والإسكندرية والجيزة، وزود أتباعه بالمؤن اللازمة والسلاح الأبيض تطبيقاً لمفاهيمه الفكرية حول الهجرة.
تم القبض على شكرى حينما كان فى طريقه لكفر الدوار للقاء بعض أتباعه، إلا أنه ركب قطارا متجهاً للمرج بطريق الخطأ، ورآه أحد الخفراء فأبلغ عنه، وفى ٣٠ مارس عام ٧٧ تم تنفيذ حكم الإعدام بشكرى مصطفى بسجن الاستئناف، لكنه كان يظن أنه نبى، لن يموت قبل أن ينفذ وعد الله له وأن الأرض ستنشق لتبتلع أعداءه.
القحطاني.. المهدي المزعوم
عقب وفاة شكرى بعامين فقط، ظهر من يدعى أنه خليفة النبى، وأنه المهدى المنتظر، وهو محمد بن عبدالله القحطانى الذى بايعه جهيمان العتيبى، زعيم الجماعة السلفية المحتسبة، الذى قام مع أنصاره باحتلال الحرم المكى لمدة أسبوع كامل قبل أن تتدخل القوات الخاصة السعودية والفرنسية وتقتحم الحرم، وتقتل جهيمان وعددا كبيرا من أنصاره، وتعد جماعة السلفية الجهادية الامتداد الحقيقى لتنظيم جهيمان.
عضو الجماعة ناصر الحزيمى ألف كتابًا تحدث فيه عن هذه الجماعة والمهدى، بعنوان «أيام مع جهيمان»، ذكر فيه أن الأحاديث السلفية كثرت فى المساجد عن فتن آخر الزمان، وقرب ظهور المهدى، وأن المؤشرات تدل على ذلك، ومنها وجود الملك الجبرى.
تزوج محمد القحطانى أخت جهيمان، وتوسعا فى ضم العناصر إلى الجماعة، وفى نوفمبر ١٩٧٩، قررا احتلال الحرم، فأدخلا السلاح إلى الحرم على ثلاث مراحل، المرحلة الأولى: بدخول المجموعة الأولى بسلاحها الفردى الذى حملته معها من الخارج، أو حصلت عليه من السلاح الذى تم تخزينه مسبقًا فى الخلوات ببدروم الحرم، والمرحلة الثانية: فى نفس التوقيت الزمنى تدخل سيارات نقل المياه، والمرحلة الثالثة: تدخل الجنائز الوهمية بداخلها الأسلحة محمولة على أعناق أعضاء الجماعة المشاركين فى الاقتحام.
إمام الحرم، الشيخ عبدالله السبيل، هرب ساعتها بين معتمرين من باكستان وبنجلاديش، وأبلغ السلطات التى حاصرت المسجد الحرام، فبادروا بإطلاق النيران.
نقلاً عن حديث خاص مع محمد شوقى الإسلامبولى، شقيق قاتل السادات، الذى كان أحد المعتمرين وخرج قبل الحصار، أنه كاد يبايع المهدى لأنه رأى رؤيا تخبره أنه خليفة النبى!! وأضاف أن الداعية السلفى الأشهر فترة السبعينيات عبدالله بن عمر أبو أنس، بايع محمد بن عبد الله القحطانى، وأنه أعدم بعدها مع المقبوض عليهم.
فى اليوم التالى، حاول محمد بن عبد الله القحطانى أن يقنع المحاصرين بالمسجد أنه «مخلد»، ولن تتمكن القوات السعودية من قتله، فكان يعيد إلقاء القنابل التى تسقط عليهم باتجاه القوات، وهو ينادى «أنا المهدى يا أعداء الله»، وفى إحدى المرات انفجرت قنبلة بين يديه فقتل، ولم يتمكن أحد من إنقاذه، ولم تعرف القوات أنه المهدى المزعوم إلا بعد انتهاء الحصار، وعرض جثته وصورته على المقبوض عليهم.
عندما علم «جهيمان» بمقتله غضب، مؤكداً أن «القحطانى» لا يمكن أن يقتل لأنه «المهدى المنتظر» وأنه سيعود ليتلقى البيعة من جديد، وادعى أن جيشًا تابعًا للقوات السعودية كان قادمًا من تبوك فخسفت به الأرض.
تم القبض على أتباع الجماعة السلفية المحتسبة، وأعدم منهم ٦١ عنصراً، وبعد وفاتهم بـ٣٥ عامًا أعلن تلميذهم إبراهيم بو بدرى الملقب بـ(أبو بكر البغدادى) أنه خليفة المسلمين.
ويليام مكانتس، الباحث فى مركز سياسات الشرق الأوسط، ومعهد بروكنجز، تتبع سيرة «المؤمن» المنعزل الانطوائى المرتل للقرآن، أبو بكر البغدادى، الذى ولد فى سنة ١٩٧١ فى سامراء حتى أعلن نفسه خليفة.
إبراهيم هو نجل رجلٍ يدرّس تلاوة القرآن الكريم فى مسجدٍ صغير، كان منطوياً قليل الكلام، الجيران الذين عرفوه يتذكرونه كشخصٍ خجول لا يختلط بالآخرين، وحتى عندما كان الناس يصطدمون به خلال مباريات ودية فى كرة القدم وهى رياضته المفضلة، كان يظل محتفظاً بهدوئه ولا يبدو عليه أى انفعال.
فى وقتٍ مبكر كانت كنية إبراهيم هى «المؤمن»، وعندما لم يكن فى المدرسة كان يقضى معظم وقته فى المسجد، منهمكاً فى دراساته الدينية، وعندما يعود إلى بيته فى نهاية اليوم حسبما أفاد أحد أشقائه.
عمل البغدادى فى سن المراهقة كمدرس لتلاوة القرآن، وعندما تخرج من جامعة بغداد فى العام ١٩٩٦، التحق بجامعة صدام للدراسات الإسلامية حديثة الإنشاء، حيث درس فيها لنيل شهادة الماجستير فى تلاوة القرآن الكريم، وخلال فترة وجود البغدادى فى كلية الدراسات العليا أقنعه عمُّه إسماعيل البدرى، بالانضمام إلى جماعة الإخوان، وكان شقيقه الأكبر عضواً فيها، وشيخه محمد حردان أيضاً، لكنه انجذب بسرعة بعدها نحو السلفيين. كان المسجد أيضاً هو المكان الذى أتاح له أن ينغمس فى ممارسة هوايته الأخرى المفضلة– وهى لعبة كرة القدم. حيث كان للمسجد نادٍ لكرة القدم، وكان البغدادى هو نجمه، ويُعرف باسم «مادونا»، فى إشارة إلى نجم كرة القدم الأرجنتينى الشهير، ويتذكر زملاؤه أنه فى كثيرٍ من الأحيان كان يفقد أعصابه عندما يفشل فى إحراز هدف، كما كان يفقد أعصابه لدى رؤية ما كان يعتبره سلوكاً غير إسلامى. فى وقتٍ متأخرٍ من العام ٢٠٠٣، بعد أن هزم الأمريكيون جيش صدام ثم حلّوه، ساهم البغدادى فى تأسيس جيش أهل السُنة والجماعة، وهى جماعة قاتلت القوات الأمريكية وحلفاءها المحليين فى شمال ووسط العراق.
بعد فترةٍ وجيزة فى فبراير ٢٠٠٤، ألقى القبض على البغدادى فى الفلوجة أثناء زيارة صديقٍ له كان اسمه على قائمة المطلوبين من قبل أمريكا، وتم نقله إلى مركز الاعتقال فى معسكر بوكا وجرى تصنيفه فى ملفات السجن بأنه «معتقل مدنى»، ومرة أخرى أدهش رفاقه فى السجن فى ملعب كرة القدم.
التقى البغدادى بجهاديين من دائرة الأردنى أبو مصعب الزرقاوى خلال الفترة التى قضاها فى بوكا، وقام أبو أيوب المصرى، بتعيين البغدادى مشرفاً على لجنة الشريعة، أعاد البغدادى وحجى بكر بناء التنظيم، وبعدها نصب نفسه خليفة للمسلمين وخطب فى المسجد الكبير بالموصل.
من الكبت والإحباط، وفقدان الأمل، والقهر، والاحتلال، إلى السلفية، والفهم العقيم للدين، ظهر النبى والمهدى والخليفة، ثالوث التكفير والتفجير.