القبيلة كفكرة واقعية والدولة كواقع مجسد في موريتانيا:
أيهما أكثر حضورا وفاعلية ضمن النسق السلطوي؟
إن الرجوع إلى ابن خلدون في سياق السعي الراهن إلى إعادة النظر في مفهوم القبيلة وعلاقتها بالدولة والتجاذبات الحاصلة بينهما لإرساء نسق سلطوي، يعتبر للوهلة الأولى موقفا تاريخيا، لكن الدرس التاريخي هو الذي أعطى الشرعية العلمية لبزوغ حفريات أنثروبولوجية وسوسيولوجية تروم فهم العلاقة الكائنة بين القبيلة والدولة وسبل حلحلة النسق السلطوي المميز لكل منهما، من هنا تبرز القبيلة في موريتانيا كميدان للدراسة في علاقتها بالدولة وما تتمتع به من سلط تبقى في كثير من مضامينها في حالة صراع مع ما تقوم القبيلة بإعادة إنتاجه من أنساق سلطوية يجوز معها وضع الكثير من علامات الاستفهام، فيما يستلزمه الدرس السوسيولوجي والأنثروبولوجي...
فهل يكمن القول إن الدولة الموريتانية لازالت عاجزة عن بسط نفوذها كاملا ؟
وهل فعلا القبيلة هي الممارس الفعلي للسلطة؟ وكيف يمكن فهم العلاقة بينها في ظل التحولات العميقة التي يشهدها المجتمع الموريتاني؟
إن الحديث عن موضوع القبيلة والدولة والسلطة في إطار السوسيولوجيا يجعلنا أمام محاولة فصل منهجية تحاول تأطير كل مفهوم على حدَة، لكي نستطيع الاستمرار في محاولة البحث والتنقيب عن الرابط العلائقي بين هذه المفاهيم المتشعبة التي لازالت تتداخل في الكثير من مضامينها حتى اليوم، وفي هذا السياق يبرز كتاب الباحث التونسي نجيب بوطالب " سوسيولوجية القبيلة في المغرب العربي " الذي يعتبر من بين الإسهامات المهمة في ميدان السوسيولوجيا، عن واقع القبيلة حيث يحاول الباحث فهم التحولات السريعة التي تشهدها المجتمعات المغاربية وتأثيراتها على البنى التقليدية المتمركزة في القبيلة، التي لازالت حاضرة في الكثير من المجتمعات من أبرزها موريتانيا وفي هذا الإطار تبرز أهمية تحيين المصطلحات وفصلها عن بعضها البعض، ففصل سوسيولجية الدولة عن أنثربولوجية السلطة يعطينا تصورا واضحا عن الدولة سوسيولوجيا وكذلك السلطة، وهنا تشير الأستاذة والباحثة المغربية رحمة بورقية في كتابها " الدولة والسلطة والمجتمع " إلى ضرورة هذا الفصل حيث أن سوسيولوجية الدولة تبحث في حدود الدولة وتجلياتها وهو ما يجعلها جهازا مركزيا، في حين أن السلطة بقيت في حيز الدراسات الأنتروبولوجية.
فالدولة كجهاز مهيكل لازم غالبية المجتمعات الرأسمالية التي تبنت دراستها السوسيولوجيا، في حين أن الأنتروبولوجيا كعلم برز إثر الحركة الاستعمارية التي اتخذت أشكالا مغايرة ومتعددة لممارسة السلطة.
إن المجتمع الموريتاني على غرار غالبية المجتمعات الإفريقية لا زال يشهد تداخلا عميقا بين هذه المفاهيم التي يرى الكثير من الباحثين أنها تعتبر من بين المفاهيم الأكثر تشعبا في ميدان العلوم الاجتماعية، فالقبيلة كفكرة واقعية والدولة كواقع مجسد يشهدان صراعا يرى بعض الباحثين أن الغلبة فيه للأولى وذلك لأن الثانية قد عجزت إلى حد كبير في بسط مركزيتها وتأطير الوعي المجتمعي إلى ضرورة تجاوز الأنساق السلطوية التي تنتجها القبيلة، وفي هذا الإطار يرى عالم الاجتماع الموريتاني عبد الودود ولد الشيخ في كتابه " القبيلة والدولة في إفريقيا" أن سبب عجز الدولة هو كونها مستوردة :أي أنها شكل من أشكال التنظيمات الكولونيالية، وذلك لكون غالبية هذه المجتمعات لم تستطع إنتاج نموذج للدولة المحلية التي تستطيع تجاوز نفوذ القبيلة وما تتمتع به من سلط، ويرى أيضا أن تنامي عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي راجع إلى أن الدولة لم تأخذ شكلا جوهريا أو محوريا، وهذا ما يمكن إسقاطه على موريتانيا لأن نفوذ القبائل لازال حاضرا بقوة، الأمر الذي حدا بأغلب الباحثين إلى التأكيد على أن غالبة الأنظمة التي حكمت موريتانيا كانت تراعي في الأساس حجم التوازنات القبيلة وهذا ما يؤكد الحضور القوي للقبيلة ومدى ممارستها للسلطة الفعلية.
إن محاولة فهم العلاقة التي تحكم القبيلة والدولة في ظل التحولات العميقة التي تشهدها موريتانيا تبقى رهينة عقلية الإنسان الموريتاني الذي لازال يتأثر بالنفوذ الذي تمارسه القبيلة ككيان منظم ومعقد حيث أن هذه البنى التقليدية التي كانت تحكم قبل الدولة قد تشكلت بشكل جديد في الدولة بغالبية هياكلها وهذا ما يدفع الباحثين إلى دراسة هذه التداخلات التي يرون أنها تمثل عائقا في سيرورة البلد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وفي هذا السياق يرى الباحث الموريتاني محمد المختار بن سيد محمد في كتابه "المجتمع والسلطة في موريتانيا" أن العلاقة بين القبيلة والدولة تبدو أكثر تعقيدا لأن الدولة غير قادرة على إلزام القبيلة بنوع من الهامشية، والقبيلة تعتبر أنها هي المشكل الرئيسي للدولة وفي خضم هذه التجاذبات يرى الباحث أن المسؤولية تقع على عاتق النخب لأنها مطالبة بتجاوز هذه الأنماط ومحاولة إرساء نماذج تدفع بالدولة الموريتانية إلى تجاوز الكثير من تجليات الأنساق السلطوية التي تنتجها القبيلة لأنها أصبحت عائقا في سبيل إرساء مخططات تنموية تدفع بالبلد إلى بلوغ مصاف الدول المتقدمة.
تأسيسا على ما سبق فإنه يمكننا القول أن القبيلة كواقع ملموس لازالت حاضرة بقوة في كافة تمفصلات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بموريتانيا، مما جعل دور الدولة ينحصر إلى حد كبير في الإجراءات الظاهرية ولبروتوكولية، مفسحة المجال أمام القبيلة لاعتلاء مراكز صنع القرار وفرض أجندتها وتوازناتها التي تجعل الدولة في كيانها خاضعة لهذه التوازنات التي يرى أغلب الباحثين أنها من بين الأسباب التي تؤدي إلى إضعاف الدولة وجعلها فاقدة لأهم ميكانزمات وجودها المتمثلة في السلطة. فهل يمكن الحديث الآن عن إرهاصات القطيعة مع زمن القبيلة المهيمن والمؤسس لغالبية الأنساق السلطوية في موريتانيا؟