“المقياس الأكثر وضوحا هو إعادة فتْح خدمات الطرق والسكك الحديدية بين الجزائر والمغرب، و هي المهمة التي لا تتطلب من العمل إلا بضعة أسابيع “. غاري كلايدهوف باورا و كلير برونيل في دراستهما : “الإقليم المغاربي و الاندماج الاقتصادي العالمي”
ـ1ـ
يحبُّ صديقنا “بول بالتا” أن يروي أنه في بداية عمله كصحفي في دول المغرب سأل أحد أصدقائه عن الصفات المشتركة لشعوب هذه البلدان. فكانت الإجابة أن ما يجمعهم هو “حكّ الرؤوس ولبس البرنس وأكل الكسكوس″.
قد يكون فعلا حكّ الرؤوس وأكل الكسكوس يعبران بشكل خاص، واقعا ومجازا، عن نمطٍ من السلوك السياسي الذي حكمَ وربما ما يزال يحكم مستوى معتبرا من العلاقات التي تربط الأنظمة الحاكمة في دول المغرب. صحيح أنّ التّجانس المذهبيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ والاستمرار الجغرافيّ يمثّل ميزة يُفتَرض أنّها تمنح دول المغرب فرصا أكثر في التّكامل. وصحيح أنّ طموحات بعض هذه الدّول في إيجاد موقعِ قدمٍ جدّي في فضاءات أخرى موازية قد فشلتْ بنسبة كبيرة خصوصا منذ بداية تراجع الحرب الباردة. ولكن صحيح أيضا أنّ الـ27 سنة التي مضتْ من عمر الاتحاد قد أظهرتْ أن المشترك السياسي لم يتجاوز كثيرا مستوى الإجابة المسجوعة.
ـ2ـ
تُجمِع المعطيات المنشورة على أنّ نسبة التّبادل التجاريّ البيني في فضاء دول المغرب الخمس أقلّ من ثلاثة بالمئة من مجموع تبادلاتها التّجارية الخارجية. بينما يصل التّبادل التّجاريّ البينيّ مثلا في فضاء الاتّحاد الأوروبيّ نسبة 67 بالمئة من مجموع التّبادلات التّجاريّة الخارجيّة لدول الاتّحاد. تُظهر هذه النّسبة الإشكاليّة الأساسيّة الّتي عانتها مؤسّسات الاتّحاد المغاربيّ منذ إنشائها رسميّا في 17 فبراير 1989. لقد كانت الفكرة حينها هي أنّ الخلافات بين الدّول المغاربيّة هي أساسا سياسيّة موروثة عن استقطابات الحرب الباردة. وأنّ مناخ ما بعد هذه الحرب سيدفع شيئا فشيئا إلى تراجع الخلافات السّياسيّة. وأنّ تهيئة تراجع هذه المشكلات بين الأنظمة هو فصلها عن المصالح اليوميّة لمواطني الدّول الخمسة عن طريق تكامل اقتصاديّ تدريجيّ والسّماح بالتنقل الحرّ للأفراد والبضائع والخدمات والرساميل. وأنّ هذا التكامل التدريجي سيمثّل أرضيّة تُحَجِّم شيئا فشيئا نقاط الخلاف السّياسيّ وتدفع الرّأي العامّ إلى تجاوزها. وبداهة كان مناخ تشكّل عشرات التكتلات الاقليمية في أواخر الثمانيات عاملا محفزا. كما أنّ انتهاء الحرب الباردة قد أشعرَ الأنظمة المغاربيّة حينها أنّ المنظومات الأمنيّة الدّوليّة الّتي كانت “سندها” هي إمّا قيد الاندثار أو قيد إعادة التّشكّل حسب الدّول. إلى ذلك كان التّكامل الأوروبّيّ (حينها المجموعة الاقتصادية الأوروبّيّة) هو النّموذج الحاضر في الإنشائيات التسويقية. ما كان يُستنفرُ هنا في هذا المثال هو طبعا كون الدّول الأوروبّيّة، الّتي عرفتْ ليس فقط خراب الحرب الكونية الثانية (ما يناهز 50 مليون قتيل) ولكن سلسلة من الحروب الطّويلة والنّزاعات الوطنية، نجحتْ “أخيرا” عبر البوّابة الاقتصاديّة ( تجارة الفحم والصّلب) في تحييد الخلافات السّياسيّة تدريجيّا. نجحتْ إلى درجة أن ألمانيا وفرنسا تخطتا الخلاف حول انتماء الأَلْزَاس وَاللُّورِين رغم سلسلة الحروب الإبادية الّتي خاضتاها بسببهما.
ـ3ـ
ركزتْ الدراسات والتقارير المتعلقة بهذه النقطة على امكانية تكامل اقتصادي يسمح بزيادة الإنتاج الكلي للدول الخمس بالنصف خلال سنتين. وتلاحظ تقارير البنك العالمي أن التبادلات التجارية تتم أساسا بين دول المغرب وأوربا لأسباب تتعلق بانعكاسات ظروف تاريخية من جهة وطبيعة السلع المتبادلة من جهة اخرى. ولكن أيضا يضيف التقرير بسبب الجهود التي تقوم بها دول الاتحاد المغاربي بصفة فردية معزولة عن بقية الدول الأخرى بينما يظل شريك كل منها الاتحاد الأوربي مجتمعا. وهو ما يعني من جهة أن هذه الدول لا تقوم بجهود موازية لرفع مستوى تبادلها البيني البالغ الانخفاض. ومن جهة ثانية أن تعاملها فرادى مع الاتحاد الأوربي، وأيضا مع الولايات المتحدة ومع الصين، يحْرمها من مزايا موقع القوة النسبي التفاوضي الذي يُفترض أن التنسيق الاتحادي أو الجماعي يسمح به. ويصدق ذلك خصوصا بالنظر إلى امكانية تكامل المصادر البشرية و الطبيعية المغاربية (تقرير البنك العالمي عن الاتحاد المغاربي 2010) واستثمار الموقع الجيوستراتيجي متوسطيا وأطلسيا وإفريقيا والتقاطعات المرتبطة به (التقرير المشترك لمؤسسات الاتحاد الأوربي عن الاندماج الجهوي المغاربي 2012). وتكررّ جلّ الدراسات أنه بالرغم من وجود مصادر استثنائية استراتيجية في دول المغرب إلا أن استغلالها مازال جدّ ضعيفٍ لأسباب سياسية. فتلاحظ مثلا على صعيد مصادر النفط والغاز غيابَ العمل على توسيع شبكة الأنابيب التي قد تكفي إنْ تمّ تطويرها لتغطية الحاجيات الأساسية المحلية الطاقية قبل 2020 (مثلا دراسة غاري كلايدهوف باورا وكلير برونيل، الاقليمي المغاربي و الاندماج الاقتصادي العالمي : حلم لكي يُحقق، دورية التحليلات السياسية والاقتصاد الدولي 2008). كما تلاحظ نفس الدراسة الأخيرة أن البنوك المغاربية تحتوي كميات كبيرة من السيولة الغير المستخدمة والتي لا تتمتع بأدوات مالية تكاملية عبر سوق مشتركة. وطبعا هنالك ملاحظات مشابهة حول شبكة الطرق والتكامل في الأمن الغذائي.
ـ4ـ
يبدو أن اشكالية العجز الشرعوي للأنظمة والاستقطاب الجيوستراتيجي واختلاف الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والبنْينة القطرية للنخب، مع ارتباطها بمناخ الحرب الباردة الذي يفترض أنه تمّ تجاوزه، مازالت قائمة بنسب معينة. وبالرغم من التحسن النسبي في التداول السياسي مثلا في المغرب والجزائر خلال العقد ونصف العقد الأخيرين (الانتقال التعددي في المغرب و خروج الجزائر من العشرية الدموية) و بالرغم من وجود نقاش حيوي حول قضايا كثيرة لدى النخب السياسية والثقافية في البلدين إلا أنّ نظاميهما نجحا في نقل حزازاتهما الموروثة أساسا عن استقطابات الحرب الباردة إلى النخب والإجماع السياسي بينها (أنوي أن أعود بشكل خاصّ إلى موضوع الصحراء في حديث قادم). فيمكن أن يقال دون كبير مبالغة إن المجتمع السياسي في الجزائر يختلف تقريبا على كل المواضيع المناقشة لديه باستثناء موضوع الحزازات مع المملكة كما يمكن أن يقال نفس الشيء عن المجتمع السياسي في المغرب تجاه الحزازات مع الجزائر. وشرائح واسعة من نخبهما منكفئة على اجترار الاصطدامات البينية المرحلية واستثمارها ومحاولة تأبيدها وأسْطرتها. وطبعا لا يتعلق الأمر فقط بالجانب الدعائي المحلي ولكنه يتعلق في مستوى معتبر بالسلوك السياسي الداخلي والخارجي. وحتى المجموعات التي كانت تقف مثلا في السبعينات والثمانينات خارج هذا الاجماع قد أُدمجتْ أو اندمجتْ فيه شيئا فشيئا. فقد شهدتْ الساحتان عملية إعادة تمركز إيديولوجي أصبحتْ معها شرعية التموقع الداخلي مرتبطة بالقدرة على رفع الحزازات الصغيرة مع الجار المشيطن إلى مستوى “الثوابت”.
وكما رأينا في أحاديث سابقة فإن الدراسات المتوفرة حاليا تُظهر أن الجزائر والمغرب تقفان الآن أمام فرص استراتيجية معتبرة على الصعيد الاقليمي. ولكن نفس الدراسات تلحّ على أن ما يحجِّم قدرة البلدين بهذا الخصوص هو أنهما يستنفدان داخليا وخارجيا جزءا كبيرا من طاقتهما في حزازاتهما البينية.
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل