في الأعوام التي أعقبت سقوط النظام السابق تبخّر الأرشيف الإستخباري العراقي من المقرات السرية وأبرزها بناية الرافدين الأولى والثانية في ضاحية المنصور ببغداد , وأما ملفات القضايا المهمة فقد وضع جنود الإحتلال أيديهم عليها وحصلت المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A على كميات هائلة من الوثائق السرية وسلمت نسخة من تلك المستندات التي إستولت عليها من مقرات المخابرات العراقية السابقة بعد سقوط بغداد لأجهزة إستخبارات دول حليفة وصديقة لها , ووثائق أُخرى سلبها عُملاء الإحتلال الأمريكي كأحمد الجلبي وغيره ولم يسلموها لحاكمهم بول بريمر ربما لأنهم لن يقبضوا ثمنها فآثروا بيعها لدول أُخرى وتسرّبت تلك الوثائق من هُنا وهناك على نطاقٍ ضيق, وإيماناً بحق القارىء في المعرفة نكشف عن جزء من ذلك الأرشيف إبتداءاً بأرشيف عام 1989 حصراً في هذا التقرير
في عام 1989 همس الإمام الراحل الخُميني لمن حوله أن كأس السُم الذي تجرّعه على الرغم من أنه كان مُراً يوم وافق على قرار وقف الحرب إلا أنه بات حلو المذاق الآن، وكان رحيل الخُميني في الثالث من شهر يونيو – حُزيران عام 1989 أي بعد تسعة شهور من تجرُّعِه لذلك السُم الذي غدا عسلاً يداوي بعد سقامه عليلاً إن إستقام لنا ذلك التعبير
عاتب صدام حسين وزير الإعلام العراقي لطيف نصيف جاسم الدليمي إذ جاءهُ الوزير يزف إليه خبر رحيل الخُميني بأن أجابه صدام بإمتعاض قائلاً (ماكو شماتة بالموت) وأظهر له عدم الرضا, وبعد أن كان الخُميني خصماً وعدواً أصدر صدام حسين أمراً لوسائل الإعلام العراقية يقضي بأن تُستخدم في الإذاعة والتلفزيون عبارة (الإمام الخميني رحمه الله) كُلَّما ورد ذكره في نشراتها وبرامجها , ولا يبدو هذا غريباً إذا علمتَ أن صدام عندما كان في السجن ترحّم أيضاً على خصمه الآخر أمير الكويت جابر الأحمد عندما أخبره السجانون الأمريكيون بوفاته في 15 يناير 2006
نعود للحديث عن العام 1989 حيث رصدت بعض أجهزة الإستخبارات الغربية والإسرائيلية نشاط وزارة التصنيع العسكري العراقية التي كان يستوزرها صهر الرئيس حسين كامل في إستيراد معدات وأجهزة تخص تطوير أسلحة بيولوجية ونووية وتسربت إليها أنباء عن إستيراد العراق معدات لتصنيع المدفع الجبار البعيد المدى بعيار 359 ملم بمساعدة خبير الصواريخ والقذائف الكندي جيرالد بول الذي أبدع فكرته ووقع معه صدام إتفاقاً سرياً تقرر بمقتضاه إستيراد قطعة عملاقة لإنجاز مشروع الصاروخ فرصدت المخابرات البريطانية السفينة التي كانت تقل تلك القطعة وأوقفتها , وساهم جيرالد بول في نقل ووضع تصاميم لمصانع الإسكندرية العراقية جنوب بغداد لصنع المدفع العملاق من عيار 359 ملم وبمدى يبلغ 1000كم فما كان من الموساد سوى أن إغتاله لاحقاً في شقته بالعاصمة البلجيكية بروكسل
تأجّج الصراع المخابراتي بين المخابرات العراقية والموساد الإسرائيلي الذي تأهّب لإصطياد العلماء الذين يعلمون لصالح العراق ولمراقبة الجيل الجديد من العلماء من الجامعيين الحاملين لشهادة الدكتوراة والمتخصصين في علم الذرة الذين إختارهم صدام حسين وزراء في الحكومة مثل وزير النفط العراقي عامر رشيد وزوجته المتخصصة في العلوم الجرثومية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي عالم الذرة الدكتور همام عبد الخالق وغيرهم
في عام 1989 أيضاً قام المهندس الألماني (كارل هاينز شاب) بتزويد العراق بأجهزة الطرد المركزي الخاصة بتخصيب اليورانيوم وسلم لنظام صدام تصاميم سرية خاصة بالبرنامج النووي الأوروبي وأشرف بنفسه على نصب وتشغيل أول أجهزة الطرد المركزي في بغداد ويعود الفضل إلى كارل هاينز في حصول العراق على التصاميم الحديثة لهذه الأجهزة عام 1989 حينما باعها لصدام مقابل 21 مليون دولار وعلم جهاز الإستخبارات الألماني (BND) الذي كان يقوده وزير الخارجية الألماني الأسبق كلاوس كينكل عن نشاط كارل هاينز الذي أُعتقل لاحقاً في البرازيل ووجّهت إليه ألمانيا تهمة الخيانة والتجسس النووي لصالح العراق, وفي ألمانيا الغربية وفي العام ذاته 1989 إحتل عالم هندسة الصواريخ سعيد بدير المرتبة الثالثة على مستوى 13 عالماً فقط في أبحاث الأقمار الصناعية في جامعة ليزيزع الألمانية ورفض الجنسية الألمانية وإغراءت الألمان ليعمل لصالحهم وعاد إلى مصر وقضى نحبه في 13 يوليو 1989 في حادث غامض ليس بعيداً عن أذهان المصريين , وفي ألمانيا أيضاً كان المدعو ماركوس على صالة بالمافيا الروسية ويعمل لصالح المخابرات العراقية ثم وجد مشنوقاً في غرفته في أحد فنادق مدينة هامبورغ الألمانية !
كان عشرات الخُبراء المصريين يعملون لصالح العراق , وكان صدام حسين قد أمر بإبقاء الأمر سراً , وماكان الكتمان عازلاً ولم يكن الإستخفاء مانعاً ولا الإستخبارات حارساً إذ وقع في 19 سبتمبر 1989 إنفجار هائل في مجمع التصنيع العسكري في ناحية الإسكندرية جنوب بغداد , وكان دوي الإنفجار من فرط قوته قد سُمع صوته في بغداد , وكان الهدف على الأرجح هو معمل إنتاج الصواريخ حيث قضى في الإنفجار عشرات الخُبراء المصريين العاملين في برنامج هندسة الصواريخ العراقية متوسطة المدى بما سُمّي ‘‘البرنامج الوطني لتطوير الصواريخ’’
أنهت وزارة التصنيع العسكري في عام 1989 صناعة صاروخ العابد وهو صاروخ للإتصالات والإستطلاع ولحمل الأقمار الصناعية إلى مداراتها في الفضاء الخارجي وكان المدفع من فئة الصواريخ الإستراتيجية ويفوق مداه الألفي كيلومتر، أي أبعد من نقطة تواجد الكيان الإسرائيلي , ويبلغ طوله 25 متراً بوزن 48 طن، وقد صُمِّمَ ليحمل وزن 70 طن عند الإقلاع ، وتم إطلاق صاروخ العابد تجريبياً في 5 ديسمبر عام 1989 من قاعدة جوية في الأنبار غرب العراق ربما قاعدة ‘‘عين الأسد’’ أو كما توقعت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بأنها قاعدة الحبانية الجوية ، وقد سبق هذه التجربة تجربتين فاشلتين، الأولى كانت إنفجار الصاروخ بعد الإطلاق مباشرة وفي الثانية إنفجار الصاروخ قبل إتمام المرحلة الأولى , ووجَّه رئيس الولايات المتحدة جورج بوش الأب ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر إنذاراً للعراق وطالباه بوقف برنامجه الفضائي الذي نهض بخبرات مصرية وعراقية تتبعتها فرق إغتيال إسرائيلية إثر الإحتلال الأمريكي للعراق وقتلت عدداً كبيراً من العلماء العراقيين , فأوعزت إيران لحلفاءها في العراق بتهريب من بقي منهم إليها قبل أن تطالهم أيادي الموساد ومنحتهم اللجوء وإشترك هؤلاء العلماء في تطوير برنامج إيران النووي
في مقالٍ سابق في هذه الصحيفة بتأريخ 27 أغسطس 2015 تحت عنوان (هذه هي القصة الحقيقة للقبض على مدبر تفجير الخبر بالسعودية : صدام سلَّم إيران قيادي حزب الله الذي شكَّل تحالف بن لادن و‘‘حزب الله الحجاز’’ للثأر من القوات الأمريكية , وسقوط المُغسِّل ورفاقه) كنا قد تعهّدنا بالإفصاح عن تفاصيل رسائل التقارب والغزل التي بعثها صدام حسين إلى إيران بعد أن وضعت الحرب أوزارها , ونظراً لترقب بعض الأخوة المتابعين لطرحها إثر العودة بعد غيبة , يطيب لنا أن ننتهز فرصة طرحها في التقرير القادم لنسرد أحاديث أُخرى سيتخللها إماطة الحجب وكشف الستار عن الأسرار
جديرٌ بالبيان أن ماسنفصح عنه في المرة القادمة عن أرشيف العام (1990) لن يتم توثيقه بالوثائق التي لاتُعد برهاناً قاطعاً إعتباراً لإمكانية تزويرها في يُسرٍ وعناية, وإنما التوثيق سيكون بالصوت والصورة من خلال مقاطع حصلنا عليها وسيتم رفعها في الأيام القادمة على قناة الكاتب الخاصة على موقع اليوتيوب , وإسم القناة (top dangerous) وعليها صورة الكاتب , وسنضع الروابط ضمن التقرير القادم لنكشف للمتابعين ولقراء ‘‘رأي اليوم‘‘ على وجه العموم من المعلومات المحفوظة في الأراشيف السرية وأطبق عليها الكتمان وتلك التي فُقدت في أوراق التاريخ المُبعثرة , ولئنْ هرعتَ نحو الإعلام للبحث عن بعضها فلن تُدرك إلى ذلك سبيلا
ياسين جميل