كثيرة هي التصريحات التي يطلقها مسؤولون غربيون سابقون، وحاليون، حول الاوضاع في منطقتنا العربية وتطورات الاحداث فيها، بعضها يمر عليه المراقب مرور الكرام، وبعضها الآخر يضطر للتوقف عنده متأملا ومحللا، فهؤلاء هم الذين يلعبون الدور الاكبر في غزو بلداننا وتقسيمها، وبذر بذور الفتنة الطائفية فيها، وسقيها وتسميدها، ويضعون الخرائط الجديدة، ويرسمون الحدود، اما قياداتنا فهي مجرد ادوات في معظمها.
استوقفني هذا الاسبوع تصريحا ملفتا لمدير وكالة الاستخبارات الامريكية السابق مايكل هايدن لمحطة “سي ان ان” قال فيه “ان سورية لم تعد موجودة، والعراق انتهى، ولن يعودا الى ما كانا عليه، وان لبنان يتفكك، وليبيا في خبر كان”.
انها نبوءة مرعبه، من شخص كان يدير مطابخ الغرف السوداء في دهاليز الادارة الامريكية واقبيتها، ويجند المرتزقة، ويسلح الميليشيات، ويرسم خطط الفوضى الدموية وطرق تنفيذها، ولذلك علينا اخذها بمحمل الجد لانقاذ ما يمكن انقاذه قبل فوات الاوان، فالمسؤولون الامريكيون، وبعد ان يغادروا المنصب العام يصبحون، او معظمهم، اكثر حرية في الحكم على الامور، وتسريب بعض الحقائق والمعلومات، بوعي او بدونه.
***
اللافت ان تصريحات هايدن هذه تؤكد جزئيا “شهادة جون كيري وزير الخارجية امام الكونغرس التي قال فيها “انه بات متأخرا الحفاظ على سورية موحدة”، او تسريبات نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف بأن “الفيدرالية احد ابرز الحلول المقترحة لسورية المستقبل”، والفيدرالية في المفهوم الاستعماري الغربي تتناقض كليا مع تطبيقاتها في الغرب المستقر، وتعني الخطوة الرئيسية على طريق التقسيم وفق الاسس الطائفية والعرقية، وعلى عكس ما يقوله انصارها لنا ان روسيا فيدرالية وكذلك امريكا والمانيا فأين يكمن الخطأ؟
القناعة السائدة حاليا، وبعد خمس سنوات من “ثورات” الربيع العربي، ان معظم هذه الثورات كانت “مفبركة”، او جرى تحريفها عن هدفها الحقيقي من قبل الدول الغربية، والولايات المتحدة، التي وظفتها لمصلحتها، واستغلال تعطش الجماهير للحرية والتخلص من الطغاة، من خلال دس بعض العناصر، وتوظيف بعض الادوات الاعلامية، بهدف الاطاحة ببعض الانظمة التي تصدت للمشروع الغربي، ورفضت كل الحلول الاستسلامية للصراع العربي الاسرائيلي، وجعلت من محاربة المشروع الاستيطاني العنصري الاسرائيلي العقيدة الاساسية لجيوشها، ومحور سياساتها العربية والدولية.
اخطر جوانب المشروع الغربي الجديد لاعادة صياغة شكل المنطقة وحدودها من خلال مخططات التفتيت واغراقها في الحروب، هو القضاء على قيم التعايش وحل الجيوش، وتغيير العقيدة القتالية لبدائلها الجديدة، الى عقائد تقسيمية طائفية او عرقية.
العراق لم ينته، وسورية لم تتبخر، وليبيا لن تزول من الخريطة، واليمن لن يبتلعه البحر الاحمر، او صحراء الربع الخالي، هذه الدول التي يحمل شعوبها جينات امبراطورية وحضارية ستنهض من كبوتها، وتعود الى مراكزها القيادية، مثلما فعلت دائما على مدى اكثر من ثمانية آلاف عام، وذهب الغزاة وبقيت هي وشعوبها علامات فارقة في التاريخ.
الدول العربية، والولايات المتحدة، واسرائيل بالذات، ستدفع ثمنا غاليا لهذه المخططات لتفتيت المنطقة التي وضعها “خبراء” حلفاء اسرائيل العلنيين والسريين، لان لهذه المخططات جوانب اخرى لا يراها الا القلة، ابرزها “فوضى السلاح”، وظهور جيل عربي محبط ربما يسعى للانتقام، فليس لديه ما يخسره، فبلاده تدمرت، ومستقبله انهار، وثرواته النفطية وعوائدها ذهبت الى مشاريع رفاهية المواطن الاوروبي والامريكي على شكل صفقات اسلحة استخدمت في قتله واشقائه، وليس اعدائه الحقيقيين.
كلاوس شواب رئيس ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي اشار الى هذه الحقيقة دون ان يقصد في كلمته امام دورة انعقاد هذا المنتدى في كانون الثاني (يناير) الماضي عندما قال للحضور الاوروبي “ان بلادكم ستواجه تدفقا للاجئين في السنوات المقبلة ربما يبلغ عدده مليار شخص، وهو ما قد يعني سحق القارة الاوروبية بالكامل، وتغيير الثقافة والحضارة الاوروبية، وسيتسبب في احداث فوضى حضارية غير مسبوقة”.
شواب هذا ليس رجلا عاديا يرمي الكلام على عناته، وانما عالم اقتصادي سويسري معروف بدقة توقعاته، فاذا كان اقل من مليون لاجيء سوري اربكوا الاتحاد الاوروبي، وهددوا بتفكيكه، والغاء معظم اتفاقياته، واعادة المتاريس الى حدوده فكيف سيكون الحال لو ارتفع الرقم الى مليار مسلم؟
***
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان “ابتز″ الاوروبيين عندما استخدم قنبلة اللاجئين “النووية” وفتح بحار بلاده امام تدفق اللاجئين، ولم يغلقها الا بعد حصوله على ثلاثة مليارات دولار سنويا، وحرية التنقل لمواطنية دون “فيزا” مما يكشف خطورة هذه السلاح واستخداماته في المستقبل القريب، علينا ان نتصور كيف سيكون الحال لو كان هذا التدفق مسلحا من قبل من يصفه الغرب بالارهابيين؟
الذين يمزقون الوطن العربي، ويحولون دوله الى فاشلة، ويرسمون خرائط جديدة من اجل بقاء اسرائيل قوة عنصرية محتلة وآمنة، سيكتشفون خطأهم الكارثي في المستقبل القريب، فنحن العرب والشرق اوسطيين، دفعنا جزئيا او كليا، ثمن مخططات التقسيم هذه من دمائنا وثرواتنا واستقرارنا، على مدى السنوات الخمس الماضية، ولن نستغرب، او نستبعد، ان يكون دور الآخرين الذين طبخوا هذه المخططات قد بات وشيكا، فأنتم وحلفاؤكم البادئون، والايام بيننا.