في ندوة عن الكتابة الإبداعية، شاركت فيها مؤخرا، وحضرها بعض المهتمين بالكتابة والشأن الثقافي عموما، ولا جمهور عريض كعادة الندوات الثقافية، سألني أحد الحاضرين سؤالين مباغتين لم أتوقعهما:
السؤال الأول: هل تحس بعد هذه السنوات التي قضيتها كاتبا، بأنك لم تعد في حاجة للتعلم، وقراءة تجارب الآخرين للاستفادة منها، أم ما زلت تحس بإحساس البدايات، وأن تجربتك لم تكتمل بعد؟
السؤال الثاني: كيف تعرف أن لك قراء، هل تملك إحصائيات بعدد الذين يقرأون كتبك، أم تظل تكتب لرغبتك في الكتابة، حتى لو لم يكن لديك أي قارئ؟
بالنسبة للسؤال الأول، أستطيع أن أقول وبارتياح شديد، إن لا كاتبا مهما بلغ من العمر، واتساع التجربة وعمقها، يستطيع أن يؤكد بأنه أصبح فوق التعلم، ولن يقرأ تجارب غيره ويستفيد منها. وكما أن الحياة مدرسة كبيرة، وتمنح الذي يحيا في كل يوم حيلة جديدة، ستفيده في ما يأتي من أيام، فالكتابة أيضا حياة لن تكف عن منح الذي يعشقها ويعيشها بجدية، مزيدا من الحيل الداعمة. وأذكر أنني كنت مرة مشرفا على ورشة للكتابة، وكانت تضم عددا من الموهوبين، جاءوا ليفيدوا ويستفيدوا من الذين سبقوهم، وحقيقة فإن ورش الكتابة ليست فصولا للتقوية أو محو الأمية، ولن تكون جزءا من دراسة نظامية أبدا. إنها حلقات نقاش جادة، تضم خبراء في الكتابة، وشبابا يملكون الموهبة والأفكار، وسيمتلكون الخبرة بكل تأكيد، في يوم من الأيام. هم يمضون أيام تلك الورش يعملون، ويسمعون الآخرين ويتحدثون، وفي النهاية قطعا تنتهي الورشة بنصوص استثنائية وذات قيمة عالية.
في تلك الورشة التي ذكرتها، بدا أحد المشاركين مستاء من كونه سيكتب نصا قابلا للنقاش أمام الآخرين، ووضح صراحة بأن نصه نهائي وغير قابل للنقاش، وكان لا بد لي من تصحيح ذلك المسار الخاطئ حين وضحت للمشارك، بلهجة قاطعة، بأن لا أحد هنا يملك نصا نهائيا، وأي نص حتى لو كتبه المشرف نفسه، يخضع للنقاش ويمكن أن يصبح أكثر جودة لو نوقش بأمانة وإخلاص، وهكذا انتبه المشارك إلى تسرعه، واستمرت الورشة لتنتج بالفعل نصوصا جيدة، وراقية.
ولعل آلية التحرير أو وظيفة المحرر السائدة في أوروبا وأمريكا، ونفتقر لها في الوطن العربي، والتي يخضع لها الكتاب الكبار والصغار معا بلا أي حساسية، أو إحساس بتقليل الشأن، توضح بجلاء ان الكاتب يتعلم، ويظل يتعلم إلى أن يضع القلم في النهاية طائعا أو مجبرا، لذلك لن يقول الكاتب الحقيقي، في يوم من الأيام، إنه أنجز تجربة نهائية، ولكن يمكن أن يقول إنه قدم كل ما عنده ولا يعرف إن كان يستطيع أن يقدم المزيد أم لا؟، ولو تذكرنا الكاتب الأمريكي فيليب روث الذي اعتزل الكتابة مؤخرا، وهو في أواخر سبعينات العمر، وبعد إنجازه لحوالى ثمان وعشرين رواية كما أذكر، لأيدناه في قراره، فلا أظن أن هناك جديدا يمكن تقديمه بعد هذه التجربة الكبيرة.
السؤال الثاني، الخاص بالقراء يبدو صعبا وغير عادل في نظري، حين يسأل لكاتب أمضى أكثر من عشرين عاما في الكتابة، وله أعمال كثيرة. هنا تكمن الغرابة في أن السائل لم ينتبه إلى الاستمرارية في الكتابة، أو انتبه إليها وقام بتحييدها وتجاهل فاعليتها. فالاستمرارية في الكتابة وحدها من دون أي معيار آخر، تدل على أن الكاتب له قراء، وإلا ما اهتمت دور النشر بما يكتبه، ولا قامت بنشره بهذه الصورة، وأعادت طباعة بعض الأعمال.
في بداياتي وحين كنت أكتب الشعر، سألني الدكتور عبد القادر القط، رئيس تحرير مجلة إبداع في ذلك الوقت، نفس هذا السؤال.
كنت قد ذهبت إليه بقصيدة اسمها: نظرة أخرى للنيل، وكان فيها فقرة تقول: «لك النيل كان احتباسا توطن في عافيات الشجون». سألني القط عن معنى ذلك، وأضاف: هل تتوقع أن يكون هناك قراء يستوعبون هذا الكلام؟.
كانت إجابتي: نعم، هناك من يقرأ هذا الكلام ويستوعبه، وإلا ما كان هناك من كتبه. بعد ذلك نشرت القصيدة في إبداع، وبالفعل كان هناك من قرأها، وجاء ليناقشني فيها على المقهى.
في الواقع أنا لي رأي في مسألة القراءة هذه، وقد خرجت به بعد نظرة متأنية لما يكتب ويقرأ عبر سنوات طويلة. وإذا استبعدنا مسألة التجارب المميزة لبعض الكتاب، وكتاب الأكثر مبيعا، الذين يعتبرون ظواهر غير قابلة للتفسير، نجد أن كل ما يكتب يقرأ، نعم كل من كتب حرفا بأي قلم وأي مداد وأي مزاج جيد أو غير جيد، بموهبة أو عدم موهبة، يجد من يقرأه، وربما يتبناه ويسعى للترويج له وسط آخرين.
المسألة ليست رقيا في تلقي النصوص الجيدة، أو ضحالة في تلقي النصوص المتدنية، ولكنه تذوق بحت. فمثلما يتذوق أحدهم زقزقة العصافير وسيمفونيات بيتهوفن، وأغنيات فيروز، يتذوق آخر البكاء والشجن، وأغنيات الراب التي هي في الغالب مجرد صوت أجش يركض حاملا كلمات بلا أي ألحان.
لن أقول لصاحب السؤال، إن لي قراء ولن أريه إحصائية لأنني في الحقيقة أعرف أن هناك من يقرأني ولا يمكن أن أمتلك إحصائية، لأن هناك من يشتري الكتاب ليقرأه، هناك من يستلف الكتاب، وهناك من يحصل عليه مقرصنا في الإنترنت، وبالتالي لا تستطيع أي دار نشر أن تحصي عدد القراء، فقط هي تحصي عدد النسخ التي وزعت. أيضا سأقول لصاحب السؤال أن يكون أكثر حكمة فلا يطرح أسئلة لن يستطيع أن يجيب عليها أحد.