كما كل عدوان سبق في الخمس سنوات الأخيرة، حملة إسرائيلية همجية ضد شعب غزة الأعزل، آلاف القتلى والجرحى يسقطون، وآلاف المنازل تسوى بالأرض، والقطاع الصغير شبه المحرر يقاوم ببسالة، وتبدي حركات المقاومة فيه تطورا تكنولوجيا حربيا بإمكانات متواضعة، وتقيم معادلة ردع من نوع مختلف، لا تجعل إسرائيل تنفرد بالنار المنهمرة من السماء، بل تردعها ـ معنويا على الأقل ـ بصواريخ يتزايد مداها باطراد، تنشر هلعا نفسيا لدى سكان كيان الاغتصاب، صحيح أنها لا تقيم معادلة الدم بالدم، بل معادلة الرعب بالرعب، ومع فارق المقدرة الهائلة للشعب الفلسطيني على احتمال الأذى وتقديم التضحيات، بينما الإسرائيليون يخافون من خيال الظل، وترعبهم صواريخ وطائرات بدون طيار، هي أقرب إلى انتفاضة حجارة طائرة، ومع تقارب الرعبين، ومهما طال الوقت، نصل إلى المحطة المعتادة بنهاية كل عدوان، وهي عقد اتفاق ينزل الستار مؤقتا، وندخل إلى فاصل يطول أو يقصر، ثم نعود إلى المشهد ذاته من جديد.. عدوان دوري ومقاومة موسمية.
قبل عشر سنوات تقريبا، كانت إسرائيل تجلو من طرف واحد عن قطاع غزة، وتفكك مستوطناتها فيه، وتنهي الاحتلال المباشر، ليبدأ الاحتلال غير المباشر، بفرض الحصار الدائم على أكثر مناطق العالم كثافة بسكانها، وهو ما كان يزيد من تكلفة الاحتلال المباشر، ويجعل عملية التحكم عن بعد أرخص في تكاليفها، خاصة أن غزة ليست بأهمية الضفة الغربية والقدس في مشروع كيان الاغتصاب الإسرائيلى، فلا مانع عند إسرائيل من ترك غزة، مقابل الاحتفاظ بالضفة والقدس، والتهويد المتصل للأرض، وحصار الوجود الفلسطيني في معازل، غير أن حركة التاريخ لا توافق هوى المحتلين، ولا تتيح لهم أمنا دائما في اختياراتهم، صحيح أن غزة منفصلة جغرافيا عن الضفة والقدس، وصحيح أن الانفصال الجغرافي تحول لسنوات إلى انفصال سياسى، لكن وحدة الشعب الفلسطيني أقوى من الفواصل الجغرافية والسياسية، وإدراك الفصائل الفلسطينية لطبيعة الفخ الإسرائيلي، وسعيها إلى إجراء مصالحات سياسية بسبب الأفق المسدود لوضع السلطتين، وميل بعضها إلى البحث عن رأس جسر لاستئناف الكفاح من جديد، كلها عناصر تغير في معادلات الركود، وتخلق روحا جديدة، تبرز فيها غزة كما كانت دائما، مهدا لحركات المقاومة، وتتفاعل فيها جماهير الضفة والقدس على إيقاع معركة توحد الفلسطينيين، وتبلور المشاعر القومية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ نكبة 1948، وقد كانت الانتفاضات الأحدث هي العنصر الجوهري لتوحيد الفلسطينيين، فمع انتفاضة 1987، زادت معدلات الشعور القومي في أوساط عرب 1948، ومع انتفاضة 2000، زاد الشعور بجدوى المزج بين المقاومة الجماهيرية والمقاومة المسلحة، وكان جلاء إسرائيل عن غزة ثمرة مباشرة للانتفاضة الثانية، ومن وقتها، بدا أن الحركة الوطنية الفلسطينية فقدت البوصلة المرشدة، وتحولت غالبية الفصائل إلى خطيئة توزيع الغنائم، وإقامة سلطات وهمية، والتورط بصيغة أو بأخرى في مستنقع اتفاق أوسلو ومضاعفاته، وكانت حركة «الجهاد الإسلامي» هي الفصيل الفلسطيني الوحيد، الذي ظل على رفضه لمعادلات الهوان، ولم يتورط في خيباتها ولا انتخاباتها، وكانت سلامة خطها السياسي والعسكري، قوة دفعت حركة «الجهاد» إلى صدارة المشهد المقاوم، فرغم فارق الإمكانات الرهيب بين «الجهاد» من جهة و»حماس» و»فتح» من جهة أخرى، إلا أن حركة «الجهاد» لم تخطئ أبدا غايتها الفلسطينية النقية، فلم تحشر أنفها في صراعات سياسية خارج الأراضي الفلسطينية، ولم تتورط أبدا في اقتتال داخلي مع أي فصيل فلسطيني آخر، وهو ما خلق بيئة ملائمة من حولها، جمعت فيها قواها، وواصلت عزمها على استئناف المقاومة المسلحة، ونجحت في إقامة خطوط اتصال مناسبة، وفي زيادة قدراتها التقنية على صناعة الصواريخ، وهو ما برز جليا في معركة العدوان الإسرائيلي الأخير، فقد بدت «حركة الجهاد الإسلامي» ندا منافسا لحركة حماس في جولات إطلاق الصواريخ بأطول مدى ممكن، ثم بدت تصريحات قادتها أكثر انضباطا ومسؤولية، وطورت مثالا رفيعا على التزام حركة جعلت قضية فلسطين هي القضية المركزية للعالم الإسلامي وفي قلبه الأمة العربية.
وربما يكون مفيدا أن نستعيد درس «حركة الجهاد الإسلامي» فهي ليست حركة أصولية بالمعنى الشائع، بل أقرب إلى تكوين الفصيل القومي الإسلامي، وهي ليست جزءا من تنظيم دولي، كما هي علاقة حماس بتنظيم الإخوان، بل هي ـ أي الجهاد الإسلامي ـ حركة فلسطينية المنشأ والهم والغايات والمبتدأ والمنتهى، وقد يقلل ذلك من فرص حصولها على دعم مالي أو تسليحي خارجي، لكن ثباتها على مبادئها وفر لها جاذبية طاغية، وجعلها همزة وصل موثوقة بين الوطنيين والإسلاميين في الحركة الفلسطينية، ومد لها جسورا مع أقطار مجاورة، وجعلها تتبادل الخبرات مع جماعات مقاومة راسخة القدم كحزب الله في لبنان، ومن دون أن تتورط في حروب أهلية وطائفية تمزق بلاد الشام الآن، وتلفت النظر عن أولوية الهم الفلسطيني، وهو ما تلتفت إليه حركة الجهاد بشدة، وتنأى بنفسها عن الانزلاق في الخطايا، وتعيد وصل ما انقطع مع حالة المقاومة من نوع مختلف، التي سبقت إليها تجربة حزب الله، التي استفادت من دعم إيراني غير محدود، وانتقلت من تكتيك الهجمات الاستشهادية الأول، إلى بناء قوة مسلحة، تعتمد على «التوطين» في بيئة اجتماعية متعاطفة، وتطور قدراتها الصاروخية، وتكتسب تكنولوجيا بناء أجيال من الطائرات بدون طيار، وقد كان لحزب الله فضل السبق في إطلاق طائرة بدون طيار فوق أراضي فلسطين المحتلة، وقبل أن تفعلها حماس بجيل بدائي من الطائرات نفسها في المعركة الأخيرة، ثم أن تجربة حزب الله في معركة 2006، كانت المثال الذي تكرر في حروب غزة سنوات 2009 و2012 و 2014، ربما مع فارق المقدرة الأكثر تفوقا لحزب الله، ومع فارق الأذى الأكبر الذي تلحقه صواريخ حزب الله بالإسرائيليين، وقد كانت تجربة حزب الله ملهمة في تحرير الجنوب اللبناني، ومن دون قيد ولا شرط ولا معاهدة، غير أن التفات حزب الله عن فلسطين إلى حروب المشرق الطائفية، هذا الالتفات أضعف من جاذبية حزب الله لدى الجمهور العربي، وهو ما قد يفتح الباب لحركة مقاومة فلسطينية ترث شعبية حزب الله، وفي تجربة غزة الراهنة بعض من ملامح تجربة حزب الله، غير أنها لا تكتمل بسبب تعقيدات الوضع الفلسطيني، وبسبب تدهور الوضع العربي، وغياب وجود قيادة فلسطينية ملهمة، وقد كانت قيادة حماس مبشرة في أوقات سبقت، غير أن تجربة حماس في السلطة أضعفت جاذبيتها، وورطتها في ألعاب غير مبدئية، وضاعفت تعقيدات أزمتها بالتورط في لعبة محاور النظم، وخلافات الحركات السياسية في أقطار الثورات، وربما يكون خروج حماس ظاهريا من السلطة فرصة لاستعادة اسمها وجاذبيتها، وما من سبيل أمامها سوى أن تحذو حذو حركة» الجهاد الإسلامي»، وأن تسلك سبيل المقاومة الدائمة لا الموسمية، وأن تستعيد مركزية اهتمامها بالقضية الفلسطينية وحدها، ففلسطين وقضية فلسطين وحدها هي العاصم من الزلل، وهي التي تجمع القلوب والعقول، وفلسطين ليست حزبا ولا جماعة ولا حركة، فلسطين هي جرح الأمة النازف، وكل ابتعاد عن مركزية القضية الفلسطينية لا يورثنا سوى الفرقة والحزن والدماء التي تسيل بلا غاية ترتجى.
نعم، هناك ألف مشكلة، ومليون وجع على خرائط الدنيا العربية الآن، وهناك ألف حرب تفرقنا، لكن الحرب الفلسطينية من نوع مختلف، والوجع الفلسطيني هو وحده الذي يوحدنا، وحـــــلم تحرير فلســطين هو الرباط الجامع المقدس لأمة العروبة والإسلام، وبقدر ما تستعيد قضية فلسطين والمقاومة الفلسطينية تألقها، بقدر ما تستعيد الأمة بوصلتها المرشدة، وتخرج من زمان المتاهة.
٭ كاتب مصري
عبدالحليم قنديل٭