باريس ــ حميد عقبي:
المخرج السينمائي البرتغالي الكبير مانويل دي أوليفيرا، تركنا ورحل بسلام في الثاني من ابريل 2015، عن عمر ناهز مائةً وستة عاما بعد مسيرة سينمائية متميزة طويلة وثرية، أوليفيرا له ما يقرب 50 فيلما تنوعت مواضيعها وعكست رؤية الفنان لقضايا مجتمعه وباح فيها بفلسفته، يصعب أن نوجز ونختصر هذه الثروة المدهشة وسنكتفي بمراجعة مختصرة لفيلمه فيلم “فالادو” (تحدث) ولعل هذا قد يفتح شهية البعض للبحث والتعرف أكثر على هذه التجربة السينمائية الفريدة والساحرة.
في فيلم “فالادو” (تحدث) 2003 ،ا يبدأ الفيلم كأنه درسا حول الأساطير والتاريخ وقد يصاب البعض بالممل في الدقائق الأولى ثم تحدث انعكاسات حادة وشيقة ليعرض ويناقش معالم حضارية قديمة وتحولها إلى مجرد ذكرى وأجزاء عديدة منها اندثرت، الكاميرا هنا عين هذا الفيلسوف الناقد والسينمائي وربما هي نظرة خاصة وذاتية يناقش فيها أوليفيرا وجوده الخاص.
حاول المخرج تلخيص قصة الإنسانية الحزينة خلال الحوار الهادئ مع ثلاث فنانات أوربيات جميلات وكابتن السفينة وهذا الحوار الذي نجده في النصف الثاني، هنالك رغبة ولذة قوية لرثاء حضارات إنسانية عريقة أصبحت شبه منسية وخصوصا الحضارة الاغريقية.
ليونور سيلفيرا، أستاذة التاريخ في جامعة لشبونة، تشرع في رحلة بحرية إلى بومباي حيث زوجها ينتظرها هناك، عبر مرسيليا، نابولي، أثينا واسطنبول والإسكندرية وعدن، تكتشف عبق تاريخ هذه الأماكن مع ابنتها، الطفلة كثيرة الأسئلة وتريد أن تتعلم التمييز بين الحضارات، ولا تصدق أن التاريخ يعج بحكايات الحرب والسلب والتدمير ويصعب على هذه الطفلة البريئة فهم العديد من التناقضات.
هذه ارحلة التي تبدو في لحظة كهدية تذكارية أو أننا مع فيلم تعليمي وسياحي وفي كل بلد سيظهر لنا ممثل وخلفه أو حوله العديد من المعالم والآثار ويترك المخرج لممثليه حرية لا محدودة وهكذا تتحول كل لقطة كأنها طابع بريدي يسعى المخرج للصقه في أذهاننا.
أوليفيرا ينطلق من ميناء المغادرة لشبونة حيث يُغرقنا في طقس ضبابي، تصبح الرؤية صعبة ويخفي تمثال الملك البرتغالي سباستيان وهذا الضباب يوحي بعدة دلالات كجهل الناس حاليا بالقيمة التاريخية لهذا البلد الذي كان ذات يوم ينافس على سيادة العالم.
يدعونا المخرج إلى العشاء في ذات مساء يستضيف قبطان السفينة وهو أمريكي ثلاثة ضيفات شهيرات من جنسيات مختلفة أي أربع لغات حول الطاولة وكل واحد يفهم لغة الآخر، يركز ويؤكد أوليفيرا أن الاختلافات اللغوية لا تمنع من التفاهم والتقارب، يترك المخرج لكل شخصية تتحدث عن نفسها ويأخذنا في رحلة إلى دواخل هذه الشخصيات النسائية، فكل تجربة مثيرة وفيها الكثير من السحر والحزن أيضا.
النهاية كانت مفجعة وغير متوقعة، فبعد توقف السفينة في ميناء عدن اليمنية وزيارة سريعة لها، لم يقف المخرج مع أي معلم حضاري لهذه المدينة ولم نسمع نقاشات كتلك التي حدثت عند زيارة معالم الاغريق في أثينا أو كنيسة ومسجد آيا صوفيا في اسطنبول أو زيارة أهرامات الجيزة وفندق قناة السويس في مصر، ولكنها كانت محطة مهمة حيث اشترى القبطان دمية صغيرة لفتاة بالزي اليمني ليهديها إلى الطفلة الصغيرة التي أحبتها وتعلقت بها، في مطعم السفينة تغني الفنان الإيطالية أغنية عاطفية وهنا يتلقى القبطان خبر تسلل مجموعة إرهابية إلى السفينة وزرعهم لقنابل متفجرة، تُعلن حالة الطوارئ ومغادرة السفينة فورا، نرى أستاذة التاريخ تركض مع طفلتها للمغادرة ، لكن الطفلة تعود للبحث عن دميتها كي تحتضنها وتخبرها ألا تخاف، تلحق بها الأم وهنا يكون الجميع قد غادر ويدرك القبطان أن الأم والطفلة هناك، يحاول العودة لكن الوقت متأخر ولا أمل في نجاتهم، يحدث الانفجار المفجع والصادم، نهاية مرعبة ودموية لعلها مقصودة وهنا يرد مانويل دي أوليفيرا على عشرات الأسئلة التي تم طرحها حول صراع الحضارات وأسباب الحروب القديمة، ربما يقودنا المخرج بهذه النهاية للتأمل في الماضي وصراعته وحروبه المدمرة التي تعود في حاضرنا ويبدو أنها ستستمر في مستقبلنا وهي ليست عقائدية أو دينية، هي ربما نتاج سوء فهم البعض وتعقيدات عصرية بحاجة لمناقشتها.
النقاشات في الفيلم كانت غربية غربية محضة وعكست وجهات نظر مختلفة تناولت قضايا تاريخية وحضارية وفكرية وتدعو لتنشيط الحوار والمصارحة كون الماضي ليس إرثا ثقيلا يجب التخلص منه ونسيانه بل العكس تماما يجب مراجعته وفهمه.