انتهت سنة أخرى من العنف العربي، وبدأت سنة جديدة بجرائم سجّلت دموية رأس السنة، كما سجّلت أيضا فشل مساعي السلام، التي قادها مشاهير ورجال سياسة في منظمات مختلفة تدّعي أنها قد تغيّر واقعنا. بعد قرون من العنف المجاني الذي سقط كثير منه من التاريخ، وبقي قليل منه عالقا بكتب أتلف أكثرها، ها نحن نعيش زمنا يسجل كل لحظة عنف من أبنائنا تجاه أبنائنا، ومن أبناء جلدتنا تجاه العالم.
لم تعد هناك صحائف قابلة للتلف. ولا أشخاص تُنهى حياتهم فتدفن أسرار شهاداتهم على من أجرموا في حق الإنسانية. اليوم نحن في زمن يسجل بالأسماء والأرقام والصوت والصورة ما يحدث في العالم أجمع. ويبدو أن ما حدث على هذه البسيطة خلال قرون مضت من حروب «كوم» وما يحدث اليوم «كوم» آخر.
نحن في حروبنا القديمة والجديدة لا نزال نرتكب الجريمة ضد أنفسنا. فلا دين وحّدنا ولا لغة. ولا مصالح ولا تحالفات. ولا نزال نستعمل آيات من القرآن بعد إفراغها من معناها التاريخي لتحريض أجيال جديدة على القتال والموت المجاني. كما لا نزال نبحث عن كل ما يشعل نيران الكراهية في قلوبنا تجاه الآخر، من أجل إبقاء لهب الحرب متقدا (انفجار اسطنبول عشية رأس السنة نموذجا). ويبدو أن أكثر النّاس ادّعاءً للإيمان والتّدين اليوم هم أكثر البشر إقداما على حمل السلاح، لا لأن إيمانهم عميق وما يفعلونه تلبية لنداء الله، بل لأن إيمانهم هش مبني على الخوف من الآخر، وتدينهم ورقة تلهو بها رياح التغيرات التي لم يتحملوها.
اليوم قد يبدو خطاب إمام مسجد يدعو لمحاربة الكفار المحتفلين بليلة رأس السنة غريبا، وهو ينبش بيتا من الشعر أكل عليه الدّهر وشرب، ويبث الخطاب على فضائية عربية وقت الصلاة قبل أن تحلّ ليلة رأس السنة، فتتحوّل الشاشة نفسها إلى منبر للعربدة الإعلامية، والنكت السخيفة والرّقص الذي لا يشبه الرٌقص في شيء، والأغاني التي يئن مؤدوها كأنهم مرضى في حالة احتضار. كان مؤسفا أن تلقى على مسامعنا أبيات شعر قديمة لأبي تمام تقول:
السيف أصدق أنباءً من الكتب / في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في/ متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة / بين الخميسين لا في السبعة الشهب
كلنا نحفظ هذه الأبيات عن ظهر قلب، ونغرسها في قلوبنا الصغيرة دون أن ننتبه إلى أنها بعد سنوات ستعطي ثمارا بحجم البطيخ في رؤوسنا، وذلك ما حدث. حتى أننا لن نعود أبدا لكتب الشعر القديمة، وكتب التاريخ لنفهم سبب إطلاق هذه الأبيات العظيمة التي جعلتنا في عداء دائم مع الكتب، مع توطيد غريب لعلاقتنا مع السيوف والخناجر. وحتّى حين اخترع العالم الصواريخ وشتى أنواع الأسلحة المتطورة لمحاربة أعداء جبابرة، بقينا هناك في عصر الصفيح، وفضلنا أن نفجّر أنفسنا بين أهلنا وأبناء جلدتنا، ذلك أن العدو الجبار الذي حلمنا به، لم يتحقق لنا رغم ترديدنا لخرافات «المؤامرة الغربية» وما تلاها من قصص لم ترق حتى لقصص ألف ليلة وليلة.
ربّما ضحكنا كثيرا على حروب كنا نسمع عنها في أفريقيا بين شعوب بدائية. ضحكنا أيضا على كل الشعوب التي تتخذ من غير الإسلام دينا، واعتقدنا أن كفرهم سبب وحيد وكافٍ لتلك الشرور المنبعثة منهم، بل اعتقدنا أن الشيطان يقودهم، وما لهم من سلطان على أنفسهم. كانت حروبنا خامدة في كتب التاريخ، خاصة حين تعرّضنا لاستعمارات كثيرة عزّزت فكرة أننا شعوب مظلومة لا ظالمة. كل شيء كان يزحف على المسالك الخلفية لتاريخنا الجديد، كأنه أشباح تنتظر صفاء الرؤية لمعاودة الهجوم على كائنات بلداننا التي لم تعرف أن تدير أمورها بعد استقلالها، واستلامها زمام أمورها.
خرج الموتى من قبورهم الضائعة في رمال الصحارى، وخرجت قصصهم المدفونة في صحائف منسية، وطفت على سطوح معارفنا حكايات أبطال يقطعون الرؤوس بضربة سيف واحدة، ويأكلون أكباد أعدائهم، ويرسلون رؤوسا مقطوعة من بلاد إلى بلاد أخرى.
لم نعرف أبدا أن نقرأ التاريخ. وكل كتاب نفتحه من ذلك التراث الذي سجّل أخطاءنا، نعتبره وظيفة تطبيقية يجب أن نقوم بها على أرض الواقع. تماما كما نقرأ الأدب فنكفّر كتابنا ونهدر دماءهم، ونلاحقهم كما يلاحق اللصوص والمجرمون. لم ندرك أبدا الغاية من الأدب لرؤية أخطائنا، وفضلنا خلال دهر من الظلم والظلمات أن نكسر كل المرايا التي تعكس بشاعتنا. وحتى تاريخنا الدموي اعتقدنا أنه ملاحم للانتصار والسيطرة على العالم.
في الغالب كان صدى بيت أبي تمام واحدا من أصوات العنف الذي عاشه الفرد العربي طويلا ليس فقط في العصر العباسي، بل في العصور كلها بدءا بالشعر الجاهلي، إن كان فعلا شعر الحقبة التي سبقت الإسلام، إلى الشعر المعاصر الذي انبثق منه الشعر السياسي والشعر الإسلامي وما شابههما. وحده الشعر كان كافيا لنفهم ما حدث. كان مرآة للحروب التي دارت خلال تلك الفترات على اختلاف خلفائها وأمرائها وأربابها. ولعلّ الشعر تحديدا كان أصدق من كتب التاريخ التي وصلتنا، ويظل الوثيقة الأقرب لحقيقة مجتمعنا العربي، لكننا لم ندرسه بعين المنطق والحكمة. ولم نلتفت إليه كوثيقة تاريخية واجتماعية مهمة.
لقد وضعنا الشعر في خانة صغيرة على هامش كل الدراسات التي حاولنا من خلالها فهم ما حدث ويحدث لنا، حتى أصبح غريبا عنّا بلغته التي لم نعد نفهمها، أمّا محتواه فقد أصبحنا نفسر ما قلّ منه على هوانا، ونفعل ذلك في الغالب من أجل غاية في أنفسنا. وهذا ربما أكبر خطأ وقعنا فيه، منذ فتحنا مدارس وجامعات وأدخلنا في مقرراتنا الدراسية مختلف ألوان الشعر العربي. نحن لا نتحدث عن «الكاميكازي» الذي يفجّر نفسه، ولكن عن كمّ الموت الذي يعج به شعرنا وأدبنا ونشرات أخبارنا وواقعنا من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب. حتى نتوقف عن اتهام الآخر دوما. ونراجع الدّرس الذي نسيناه منذ مئات القرون وننظر إلى أنفسنا جيدا.
و أعتقد أن أوّل خطوة نحو تحرير الذات من حمولة العنف، هي أن نقرّ بتلك الخطايا التي ارتكبناها تجاه أنفسنا وأعطيناها مصطلحات مختلفة لتصبح رموزا لانتصارات وهمية، لا تزال تنخر الجسد العربي كسرطان العظم. ذلك أن ما كان شعرا واصفا حروب أبناء العمومة والأطماع من أجل السلطان قديما، أصبح يُقلّد بشكل بائس منذ أواخر القرن الماضي وينشر هنا وهناك على أنّه شعر إسلامي، وقد نال هذه الصفة بكل أسف، دون أن ننتبه إلى أنه وثيقة أخرى تضاف إلى أكوام الوثائق التي تلصق بنا صفة الإرهاب.
وثمة خطوة أخرى أكثر أهمية وهي أننا إن تصالحنا مع الشعر، فحتما سنتصالح مع أنفسنا، ونتوقف عن تقبيل السيوف لأنها تذكرنا بأسنان عبلة وبطولات عنترة. إننا في زمن معجون الأسنان الجيد، وطبيب الأسنان الجيد، وابتسامات حسناوات العالم التي لها مفعول السحر لتليين القلوب وجعلها مسالمة.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين