تلك شجرة يوشك السّواد المضيء ان ينبثق من عمق خضرتها، وعمرها المديد هو مما جعل الحفيد الخامس يقطف ما زرعه الجدّ السابع، بأوراقها الصغيرة التي لا تكفي لأن تستر عورة عصفور او حتى فراشة، قاومت الخريف ولم تجرؤ الأفاعي على ان تبيض في ظلالها، لأن حفيفها يذود عنها الفحيح، وحين تذوّقنا مرارتها بفضول طفولي ايام الصبا، لم نسأل البالغين عن سرّ المرارة، وهل هي من دمع من غرسها ام بسبب مجهول، فكانت الاجابة هذه المرة من الاسطورة، وبالتحديد من كتاب «مسخ الكائنات» للشاعر الروماني اوفيد صاحب «فن الهوى» الذي عاقبه الامبراطور اوغسط بالنفي الى فصل خامس حيث لا ايقاعات للأيام ولا ندى يرّطب الزغب الاسمر على الليل، ذلك لأنه اقترف جريمة العشق في خريف امبراطوري عشش السوس في صولجانه وانعطبت كل بوصلاته.
يروي اوفيد في «مسخ الكائنات» كيف اصبح ثمر الزيتون مرّا، فعلى الشاطىء الشرقي للبحر المتوسط في موقعه والمتطرف في زرقته كان عدد من الصبايا يذهبن للاستحمام والتراشق بالماء ثم الرقص والغناء البريء، ولم يخطر ببالهن ان هناك رعاة بذيئين اتخذوا من الرمل كمينا للتلصص عليهن، وما ان تكشّف الامر وافتضح الرعاة حتى اخذتهم العزة بالاثم واعتدوا على الصبايا وحاولوا اغتصابهن، ومنذ تلك اللحظة كما يقول اوفيد اصبح الزيتون في حوض البحر كلّه مرّا !
فهل رأى الشاعر الروماني عن بُعد قرون ما سيجري بعد تحوّله الى رميم؟ وهل كان ذلك حدسا ام نبوءة ام اختراقا للتاريخ باتجاه الاسطورة! فما حدث بالفعل منذ ما يقارب القرن هو ان رعاة مجهولي النسب وقطعانهم من ذئاب وليس من غزلان او ماعز جبلي نصبوا كمائن لصبايا محلولات الضفائر ويغتسلن ببراءة في بحر يقاسم اليابسة الذاكرة والتقاويم والهواء، لكن صبايا التاريخ تمرّدن واعلنّ العصيان على صبايا الاسطورة، فلم يهرعن عاريات وهاربات من الرعاة، بل قررن ان يقاتلن بما تهشّم من فخار جرارهنّ وحوّلن ضفائرهن الى مشانق.
صبايا التاريخ بعد ان اختلط حابله بنابل الاسطورة، يحملن اسماء منحوتة من صلب الابجدية البليغة والخالدة وهوّ حفيدات الشجرة التي ليست شرقية ولا غربية بل فلسطينية حتى اللحاء، وعربية حتى أنأى كثيب في الصحراء.
صبايا التاريخ لهنّ مساقط رؤوس وشهادات ميلاد منذ الطنطورة حتى الشجاعية، ومنذ دير ياسين حتى مخيم جنين، وان شئنا ان نذكر بعض اسمائهن فهنّ شادية ابو غزالة و دلال المغربي وليلى خالد وأمينة دحبور وراشيل كوري التي ولدت امريكية واستشهدت فلسطينية، والطفلة ايمان حجو وشقيقاتها الاكبر والأصغر على امتداد خطوط الطول للتراجيديا وخطوط العرض للمقاومة!
* * * * * * * *
حين يكتب شاعر فلسطيني لو يذكر الزيتون غارسه لأصبح الزيت دمعا، فذلك بمثابة اختزال بليغ لملحمة لم تبلغ ذروتها بعد، فوطواط الاحتلال الذي يخشى النهار ويمتص دماء الاطفال اصبح اشبه بأسماك القرش التي يسيل لعابها السام كلما شمّت رائحة الدم، لكنها تنتحر في النهاية او تلدغ نفسها كما يفعل العقرب، لأن كل سمّ هو عبء على العنق الذي يحمله، ولا بد من افراغه حتى لو تطلّب ذلك لدغ الذات.
وحين كتب راشد حسين مطالبا ما يسمى حارس املاك العدو في اسرائيلبمصادرة بساط المسجد، اضاف بأنه لو عصر رغيف الخبز بيد اسرائيلي لرأى دمه الفلسطيني يسيل، وثمة مفارقة قد تستوقف ذات يوم المؤرخ والانثروبولوجي ايضا، لم تحدث من قبل على هذا النحو المثير، هي ان هناك ايديولوجيا غيبية ومضادة للتاريخ وتتغذى على الاسطورة تحاول ان تصبح تاريخا لكنها تتحول الى موجات متعاقبة تتكسّر عند تخوم التاريخ ولا تبلغه، مقابل فكر هو من صلب التاريخ يقارب الاسطورة في تجلياته الرمزية وقابليته للتأويل، فالقوي ان لم يحقق النصر يكون مهزوما، والأعزل الا من ارادة المقاومة ان لم يُهزم فهو منتصر بالضرورة، وهذه ليست احجية، بقدر ما هي استنتاج منطقي للنسبية وبعيدا عن المقاربات المجردة التي تحتكم الى المطلق. والانسان الذي كان في الماضي ضحية دائمة للحيوانات الاشدّ فتكا طوّر ادواته بدءا من اكتشاف البرونز كي يحمي نفسه واطفاله منها، ثم حوّل جلودها وفراءها الى حقائب وأحذية واوشكت على الانقراض، لكن الفراشات والعصافير لا تزال تملأ الفضاء، فالتاريخ بجدليته الخالدة، لا يقبل مجراه التدجين او تحديد المصبّ، ولو كان كذلك لاستمرت الامبراطورية الرومانية حتى هذا الصباح، لكنها تحوّلت الى اطلال يتسلق عليها السائحون والاطفال.
* * * * * * * * *
هل كانت مرارة الزيتون دفاعا عن عناقيده ضد من يجهلون ابجديته وسيرته الذاتية الخضراء ؟ كما ان المحارة هي الدفاع الأشدّ قسوة عمّا تؤتمن عليه من لؤلؤ؟ ولا اعرف اذا كان هناك صلة اشتقاقية بين شجرة الصبير والصبر، لكن المشترك فيهما يتجاوز الحروف، فالصبير قد لا يقوى على الحفيف كي لا يثقب الهواء، لكنه يحمي بأشواكه الشهد الذي يهجع داخله!
لقد كتب الشاعر اوفيد تلك الحكاية عن الزيتون المر قبل قرون طويلة، لكن التاريخ من بعده ومن بعد الامبراطور الذي نفاه عقابا على العشق سوف يعيد انتاج الحكاية على نحو آخر.
فالطفل الفلسطيني الذي فرض عليه عدو سادي منزوع الآدمية ان يشرب البنزين كي يحترق من الداخل ايضا يقترح على المستقبل اسطورته الخاصة، ومن رماده سوف تتخلق سحابة تحجب السماء من العنقاوات، لقد عرفنا لماذا يكره الاسخريوطي شجرة الزيتون، فهو عاجز عن تدجين مرارتها تماما، كما عرفنا لماذا يخاف من المستقبل ويرى فيه كمينا لا سبيل للنجاة منه … لهذا يقتل الاطفال ويحرقهم منفّذا تعاليم تلك الشيطانة العجفاء التي اوصت ذريّتها بقتل آخر طفل فلسطيني حتى لو كان في الرحم!
خيري منصور