في خريف العام المنصرم ، قمت بزيارة أخوية بحثية لولاية — لعصابة ، كانت بدايتها الفعلية النزول في منطقة " واد أم الخز " التي تبعد حوالي : 80 كلم ،
شمال الولاية ، حيث بدأت تباشير الزمن الجميل تلوح لعين الناظر المتوسم ، وتعانقت على أديم أرضها ثلاثة تجلي عن القلب الحزن ؛ — الماء — الخضراء — الوجه الحسن ، أقمت في كنف " حاضرة " الوادي عدة أيام وليال ، أشبه ماتكون ب :
كانت في دمشق لنا ليال === سرقناهن عن ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي === وعنوان المسرة والأمان..
ليال ملاكها القيم الأصيلة التي تحث على مكارم الأخلاق ، وتدفع إلى معالي الأمور ورفيع الخلال ، تغشانا مكارمهم ، وتمطرنا سحائبهم ، ننام ونستيقظ على ضفاف تنبت الزرع ، و سهول تدر الضرع . حتى لاح لي سنا برق الرحيل الخائن ، فأتبعته عصى ترحالي ليلقيها بعد أن استقر به النوى قبل استواء الليل ، في ربوع " يعجب " التابعة ل — مقاطعة تامشكط ، التاريخية ، حيث تنحصر الأهداف وتتلألأ العوالم نبلا وشرفا ؛ نزلنا لدى قوم عناهم الشاعر قديما بقوله :
ضربوا بمدرجة الطريق خيامهم === يتقارعون على قرى الضيفان
ويكاد موقدهم يجود بنفسه === حب القرى حصبا على النيران.
بين هؤلاء القوم الذين أحببت حديثهم ، أصابتني من الله حسنة ، تجذر حب وجودها داخل كياني حتى صار مطلبا للوصال ، بين ما أنا أطوح من شاطئ المجهول إلى رمال المعلوم ، على هضبات كثيرا ما أسرع الناس وأطافوا بهما ، بعزيمة أسرع من ضربة الجناح ،
إذ قال لي قائل منهم ، ماجاء بك إلى هنا ، كأنك غريب أو عابر سبيل ، إنك لتعرف الرجل الذي رسم أدب الفتى أخلاقا وتميزا وأدبا ، عل الركبان حدثتك عنه ،
كانت مساءلة الركبان تخبرنا === عن جابر بن رباح أحسن الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت === أذني بأصدق مما قد رأى بصري.
ظهر لي محيا الشيخ تغشاه السكينة والوقار، وما أدراك من الشيخ ؟ ثم ماأدراك من الرجل ، رجل فذ في علمه وعمله وذكائه وإصلاحه، أذاق الكل من ثمره طعم معجزة الفكر المربي للأجيال ، صدره رحب ، له دين غض كعهد الدين بأيام نزول الوحي ، ترى صدق نيته في وجهه ، كما يريك الحق صدق فكره في لسانه ، ودودا لا يعرف البغض ، محبا لا يتسع للحقد ، لا تراه إلا ويتحنث في محرابه الليالي والشهور ، يقطعها تسبيحا وقرءانا ، بيد أنه الأديب الذي يحفظ البيت النادر ، والمثل السائر ، والحكاية المغربة ، والنكتة المطربة ، والحكمة الجامعة ، في مسامرة معه حدثني فيها أنه يحفظ : دواوين الشعراء الستة الجاهليين , وديوان ذي الرمة ، والبوصيري ، والبرعي ، هذا في الأدب وحده , فضلا عن المعارف الأخرى ، حينها علمت مفهوم الثقافة لدى أبي عثمان ( الأخذ من كل فن بطرف ) ، وأنه عنوانها الجامع ،فهو يقطف من الأدب العربي ماهو طريف وجديد وتالد ، ويروي من ذاكرتنا —الجماعية— ما هو ممتع ووارد ، فإذا عد الزهاد والعباد فهو جنيدهم وبصريهم , وإذا عد القراء فهو نافعهم ، وإن ذكر الشعراء فهو خنذيذهم ، وإن ذكر الحفاظ فهو حافظهم المحدث , وبن قتيبتهم الكاتب , وأبي حيانهم النحوي , وبن كثيرهم المؤرخ , وجاحظهم البياني.....
فماهو إلا حاتم وبن حاتم === وماهو إلا قاسم وبن قاسم.
فيه تجمع سيبويه ويوسف === والكاتبي والأشعري وأشهب.
إنه الراحل والفقيد الحاضر : محمد محمود بن اعل ( دده ) ، رحمه الله ، من كان يرى أنه لابد ميت وتارك ميراث مودته ، فلا أعرف أني رأيت منه إلا أحسن ما فيه ، وكأنما كان يضاعف حياتي بحياته ، ويجعلني معه إنسانين .
——————————————————————
وماهذه إلا قطرات من بحر شفت كلماتي عن اصطياد جوانبه الغائرة , عل الله أن يتيح لي في سانحة أخرى تناول ما فيه سداد من عوز شخصية من أساطين العلم والثقافة والتاريخ ، فارقتنا علانيتها المشهودة , وتركت فينا سريرة محمودة ، وءاثارا في الأنام مبثوثة ،
رحمه الله برحمته الواسعة ، وأسكنه فسيح جناته ،
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد المصطفى الولي