في يوم الجمعة الماضي صوتت أغلبية مجلس الشيوخ الموريتاني (الغرفة العليا في البرلمان 58 عضوا ينتخبهم المستشارون البلديون) ضد التعديلات الدستورية المقترحة من طرف الحكومة والقوى المشاركة في الحوار الوطني؛ والتي نالت أغلبية ساحقة في الجمعية الوطنية التي ينتخب الشعب أعضاءها بصورة مباشرة.
وقد أثار هذا الحدث الكثير من الجدّ والفضول، وصار حديث الناس خلال عطلة الأسبوع وبعدها، واختلفت الآراء حوله اختلافا بينا، حيث اعتبرته الموالاة خيانة من شيوخها وطعنة في الظهر موجهة لها ولنظامها وللوطن؛ بينما اعتبرته المعارضة حدثا تاريخيا وفتحا مبينا وشجاعة منقطعة النظير ونهاية للتعديلات الدستورية التي تعارضها.
وبالرغم مما يسوقه هؤلاء وأولئك من حجج لتبرير مواقفهم من هذا الحدث، فإنني أنظر إليه من زاوية أخرى وأعتبره عملا عظيما ودرسا مفيدا قدمه شيوخنا الأفاضل في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا. وذلك للأسباب الثلاثة التالية: السبب الأول: أنه يقدم لنا دليلا قاطعا على هشاشة النظام وأغلبيته سياسيا وأمنيا. هذا النظام وهذه الأغلبية اللذين عجزا عن تأطير وضبط وتسيير شيوخهما الخمسين، أو على الأقل سبر خباياهم ورصد وجهة حراكهم حتى يتجنبا ويجنبا البلاد عقابيلهم. قد يقول قائل إن التقية والنفاق لعبا دورا حاسما في الموضوع، وقد يقول آخر إن المال - هو الآخر- تحرك فلم يبق ولم يذر. ولكن هل يبرر ذلك كله وقوع حدث مفاجئ بهذا الوزن؟ وأين كنتم وماذا فعلتم؟ قل هاتوا برهانكم كقائمين على شؤون دولة يتهمها البعض زورا بالاستبداد والدكتاتورية والبوليسية؟
إن الجواب الصحيح هو إما أنه لا وجود لقائمين على سياسة البلاد وأمنها، أو أنهم موجودون، ولكنهم متواطئون مثل حراس سور الصين العظيم الذين فتحوا أبوابه بمقابل لغزاة ما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا. السبب الثاني: أن هذا الحدث وتفاعلاته يقدمان لنا صورة قاتمة عن المنظومة الأخلاقية في بلادنا؛ وخاصة في الحقل السياسي والاجتماعي، وعن مدى تقلب وتذبذب وزيغ وميكيافلية الدوافع التي تحرك نخبنا.
فمما لا شك فيه ولا جدال أن لو كان شيوخ الأغلبية الذين صوتوا ضد مشروع التعديلات الدستورية قد أعلنوا صراحة - كما أعلن إخوانهم في المعارضة- أنهم يعارضون هذه التعديلات وسيصوتون ضدها إرضاء لضمائرهم، لما عاب عليهم عائب، أو عتب عليهم عاتب، ولكانوا قد نالوا ما يستحقونه من تقدير على شجاعتهم وصدقهم ووقوفهم مجاهدين دون رأيهم. ولكن الطامة الكبرى هي أن شيوخ الأغلبية الذين صوتوا ضد مشروع التعديلات الدستورية كانوا قد تعهدوا للأغلبية وحزبها وحكومتها بالتصويت لمشروع التعديل، وذهب التزلف ببعضهم للتدخل والدعوة البواح للتصويت على المشروع في مواجهة زملائهم المعارضين. ومع ذلك فلم يعدم هذا التصرف الفاضح من يدافع عنه في صفوف الأغلبية نفسها لأن "الماء من الأضاة".
أما المعارضة فقد تلقفته لمسيس الحاجة السياسية إليه - والهدف يبرر الوسيلة- واعتبرته ثمرة نضالها، ووصفته بالبطولي؛ ناسية - أو متناسية- مواقفها المعروفة من عدم شرعية مجلس الشيوخ أصلا. وقد رأى بعض قادتها أنه يجب نقش أسماء الشيوخ بماء الذهب على باب البرلمان، وقال آخرون: "إن مجلس الشيوخ بموقفه الجمعة الماضي أزال كل الملاحظات التي كانت عليه، وتناغم مع موقف الشعب الموريتاني" أي المعارضة! بينما رأى أمثلهم طريقة أن "مجلس الشيوخ لا يتمتع بأي شرعية، لكنه يتمتع بالمشروعية! فالشيوخ اليوم نالوا المشروعية وهي أهم من الشرعية"! وأما خبراء القانون في المعارضة فقد رأوا أن أصوات 33 شيخا تجُبُّ جميع ما قبلها، وراجحة على رأي مجلس النواب والرئيس المنتخبين انتخابا مباشرا من طرف الشعب، وأنها توصد الباب نهائيا أمام كل تعديل ما لم ينظم حوار جديد، وتحتم استقالة الرئيس والحكومة!
ولكن.. أين – يا ترى- قيم الصدق (وعد الحر دين عليه) والوفاء والمروءة والشجاعة والإخلاص، التي قام عليها مجتمعنا، وحرص السلف على توريثها للخلف، وفاخر الخلف بإرثها عن سلفه؟
السبب الثالث وهو الأهم: إن موريتانيا عرفت منذ الانقلاب على الانقلاب ظاهرة غريبة ظلت تشكل خصوصية الوضع السياسي والاجتماعي فيها؛ ألا وهي تَكَيُّفُ القوى السياسية والاجتماعية المنقلب عليها مع الحالة الانقلابية الجديدة، وتماهيها مع السلطة والمعارضة معا، واختراقها لهما، وتموقعها في صفوفهما؛ لدرجة أنها استولت على قيادة بعض فصائل المعارضة، وتحكمت في كثير من مفاصل الدولة، وفي بعض أزِمَّةِ الموالاة. الأمر الذي أدى إلى فشل كل من النظام والمعارضة في تحقيق أهدافهما، ومَنَعَ من حصول أي تقارب أو تفاهم بينهما، وَفَوَّتَ الكثير من الفرص التي لو اغتنمت لكانت البلاد قطعت شوطا أبعد مما هي عليه. لقد رصد بعض المتكلمين في الشأن العام هذه الظاهرة منذ الوهلة الأولى وحذروا من مغبتها وخطورتها على الوطن. ولكن هيهات.
أما اليوم، فإن مجلس الشيوخ بالكمين الذي نصبه لحزبه ونظامه، وبالانقلاب الذي دبره على أهله ووطنه، يكون قد أعطى الدليل القاطع - دون ريب أو شك- على أن فصائل سياسية واجتماعية وخلايا نائمة تندس في صفوف كل من النظام والمعارضة وتتّبع سياسة الازدواجية والتقية حفاظا على وجودها وحماية لمصالحها وكسبا للوقت والموقع الملائمين، بغية الحصول على المزيد من التحكم والمعلومات، وتخريب ونسج العلاقات وتحضير الخطط والمؤامرات.. الشيء الذي سوف يوقظ القوى الوطنية من سباتها حتى تتدارك أمرها وتتبين الصديق من العدو.
فشكرا جزيلا لمجلس شيوخنا الشجعان على هذا الإنجاز العظيم والدرس الكبير الذي سوف يجد - لا محالة- من بين أبناء هذا الوطن من يستوعبه ويتعلم منه ويضعه نصب عينيه.