افتتاحية الاثنين 01/05/2017
( صيحة في واد)
لا تزال الوقائع والأحداث تؤكد راهنية القضايا والمصطلحات التي طرحتها الثورات الإنسانية والديمقراطية منذ أكثر من قرنين. فقد ولد مفهوما ( اليسار واليمين) في صيف 1789، في غمرة جدل نواب الهيآت العامة الفرنسيين بشأن الفيتو الملكي. النواب الذين عارضوا أن يتضمن الدستور مادة تمنح الملك حق نقض القرارات الصادرة عن ممثلي الأمة، والتصرف بحرية مطلقة، جلسوا على يسار منبر الرئيس، والذين كانوا ينادون بمنحه تلك الصلاحيات جلسوا على يمينه.
كما هو الحال في كل بلدان العالم التي لم تتبلور في مجتمعاتها تجربة سياسية تحدد منظومة وعي أفرادها لرؤية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يوجد عندنا اليوم معسكران، يمثلان الفرز الفكري والسياسي بين معسكرين، معسكر مستعد للمضي في تنفيذ كل أمر صدر من السلطة، أية سلطة، يراه شرعيا ودستوريا وقانونيا لمجرد أنه صدر منها أو لأنها تريده، ومعسكر آخر تضع خطواته الجريئة على مستوى غرفة الشيوخ اللبنات الأولى لعهد تحول ديمقراطي مصمم على رفض بقاء المؤسسات بدون مرجع ولا ملجإ وتسليمها مكبلة لأهواء سلطة فردية تنزع لتجعل من نفسها جهة فوق القانون تتصرف بمقتضى ما تمليه اجتهاداتها الضيقة، ورغبتها في التمجيد، والاستغراق في التعبير عن الولاء، الذي هو اسوء اشكال التعبير عما هو سياسي، وأسرع موصل للتوجهات التي لا يحكمها غير منطق الاستحواذ على السلطة والاحتفاظ بها، وتدمير كل مؤسسة يحتمل قيامها بدور السلطة المضادة، وهي أهم دعامات الحياة الدستورية التي تأسست فلسفتها ومراميها الكلية على حذر شديد من السلطة وروح الطغيان التي تسكن بشكل اعتيادي دائم من يمسكون زمامها.
يتحرك فريق تمجيد السلطة اليوم لمباركة ما يصدر منها من خلال ما يشاهد من مبادرات البذخ والإسراف والمناديل الصقيلة، والقاعات الفخمة في فترة تعيش فيها البلاد أزمة مالية ومطلبية توشك شرارتها أن تشعل فتيلة الأزمة السياسية والدستورية الوطنية العامة، الموشكة على الاشتعال من تلقاء نفسها، كما يتحرك من خلال النفخ في مكونات المجتمع الطبيعي، وإشعال جذوة غرائز النافس البيني داخلها للتعبير عن الولاء لمشاريع تغييرات دستورية لا علاقة لها بهموم يومهم الكالح المغطى بغبار اشتداد وطأة المكوس وارتفاع الأسعار، وليلهم المليئ بكوابيس انعدام الأمن والطمأنينة.
بينما يتحرك المعسكر الثاني برؤية ما زالت تحلم حسب ما يصدر من اغلب أطرافه بوجود نظام يسمح للمختلفين بالتفاوض سلميا حول نزاعاتهم الداخلية، ذلك ما صرح به تكتل القوى الديمقراطية ومنتدى الوحدة والديمقراطية، حين دعيا للحوار، وأكده كل من تحدثوا من شيوخ الاغلبية الرافضين للمسار الأحادي، وغيرهم من أحزاب وشخصيات مستقلة... وبغض النظر عن الموقع أو الجهة التي يود هذا المعسكر الجلوس فيها، في خريطتنا السياسية والحزبية يسارا او يمينا يتحتم عليه أن يعتمد اسلوبا جديدا في مواجهة ما يحضر للبلاد غير ( صيحة الواد) التي تطلقها أطرافه إلى حد الآن، و التنسيق المشترك لتشكيل جبهة أو تحالف وطني، لا ينبغي أن يؤثر عليه تاريخ النزاعات الانقسامية، بين مكونات أطراف هذا التحالف، ولا صعوبة العمل الجبهوي في مجتمع مفكك النخب، لأن طبيعة التهديد تستوجب مرونة وعبقرية في إطار توافقي داخلي فعال، ومن المؤكد أنه لن يوجد شكل مكتمل النضج لهذا الإطار إلا بعد الدخول فيه، وتحديد الكيفية التي سيحقق بها هدفه الاساسي وهو صيانة الدستور وحماية مؤسسات الجمهورية، ورفض الخيارات غير التوافقية التي يهيئ النظام البلاد للشروع فيها بعد إعلان رزمة الإجراءات والتواريخ الأخيرة.