متحف أندرسن (1) نحو بلدان الشمال، كانت رحلتي الأخيرة إلى الدنمارك، ضمن لقاء عربي ـ دنماركي ثقافي، انطلقت ورفقة حميمة، مع مجموعة شعراء دنماركيين من أجيال مختلفة في رحلة قطار رائعة من كوبنهاغن إلى مدينة أودنسه، حيث مسقط رأس الكاتب العالمي هنز كريستين أندرسن.
وأندرسن بالنسبة إلى الدنماركيين كغوته بالنسبة الى الألمان وشكسبير بالنسبة إلى الإنجليز، سحر عالمه الطفولي يلفت النظر، شخوصه، مخيلته، قصصه التي قرأناها صغاراً ولكن، لا نتذكر كاتبها جيداً!!
أندرسن، كاتب دنماركي، ولد في مدينة أودنسه، كان ابن اسكافي فقير كما روي عن حياته، عاش طفولة سعيدة حتى وفاة والده وزواج أمه الثاني، سحره المسرح فذهب إلى كوبنهاغن وحاول عبثاً أن يصبح راقصاً فمغنياً، لكن القدر هناك، كان يخبئ له مفاتيح الكتابة، فشرع يكتب أشعاراً وقصائد منثورة تحت عنوان «نزوات وخطوط» ليدخل بعد ذلك عالم الأدب من خلال أقاصيص كان قد سمعها في طفولته: القداحة، الأميرة فوق النبتة المتسلقة بزة الإمبراطور الجديدة، اللقالق المتوحشة، وغيرها، لذلك فإنه لا يزور أحد اودنسه دون ان يزور متحف أديبها الشهير.. متحف أندرسن.
رغبة عارمة، كانت تدفعنا نحو اكتشاف عالم ذلك الأديب، الذي أتحفنا بروائع الحكايات في طفولاتنا: البنت الصغيرة بائعة الثقاب، حذاء السعادة، أزهار الصغيرة إيلدا، ملكة الثلوج و..إلخ.
بطافة الدخول إلى متحفه، أعادتني إلى صداقاتي الأولى الحميمة في مكتبتي الصغيرة، دهشة المعرفة البكر، كنا نتأمل المكان، ذاهبين إلى عذوبة طفولاتنا، هاربين إلى نبع الماء الأول بعيدا عن مكان يومياتنا اللاهثة وانزياحات وجودنا، العالم من حولنا وصيرورة حيواتنا، عثراتنا، سعاداتنا الصغيرة والكبيرة، انكساراتنا، يتمنا في الأمكنة وانهزامات احلامنا، فرحنا الغامر بالأشياءن كنا في انصهار جميل، وحده الأدب هنا بيننا، يوقد إنسانيتنا الحرة، يربطنا بشكل عالمي شفيف، فثمة احتفاء عظيم بالمبدع والطفولة، المتحف بأقسامه، قسم لأدوات الأديب، اوسمته، صوره، اغراضه الشخصية، قسم لتاريخ مرحلته وما عاصر من احداث وقادة وسياسيين، قسم لهواياته الاخرى حيث رسومه وقصاصاته الورقية، وأقسام اخرى خصصت لسرد قصصه بتقنيات شتى، عبر جداريات زجاجية معشقة ورسوم علقت بمخيلات مبدعين انبهروا بأعمال هذا الأديب وسعة خياله.
من مختلف أصقاع الدنيا فقد ترجمت أعماله إلى مئة وخمس وعشرين لغة، ومساحة أخرى مستحدثة للطفل حيث مسرح طفل صغير مجهز لتقديم عروض مسرحية مستوحاة من قصص أندرسن التي تعترف له بخصوبة الخيال جيلاً بعد جيل.
في شوارع أودنسه، استمرت جولتنا و(كملوك صغار ومليكات صغيرات) على حد تعبير الصديق الشاعر الدنماركي ت.س. هوي كنا مأخوذين نستكشف المدينة بأزقتها العريقة وبيوتها القديمة، نتابع صيد الدهشة في عالمنا الرقمي التكنولوجي. «إلى حيث يقودنا السفر، إلى العالم الواسع!».
هكذا ينفصل التسكع عن التشرد والضياع عند أندرسن إلى رغبة عارمة في اكتشاف العالم وحكاياته لأن الحكاية تقبع مستترة خلف الأشياء غير المتوقعة، وفي قلب الوردة، كأنها في ثقب إبرة، وإذا لم يلمحها أحد اختفت كما يقول أندرسن: «من المحتمل أن تطرق الحكاية الباب، لكن إن لم يسمعها أحد او إن لم يستقبلها أحد فقد تمضي، سأذهب للبحث عنها».
نهار ريفي (2)
كادت الشاعرة الدنماركية نينه مالينوفسكي في ذلك النهار بمنزلها الريفي أن تفرش لنا الدرب بكلمات أبيها التي لما تزل قابعة بين حقول القمح، أشجار عيد الميلاد، واخضرار المدى، وأنت تقترب من بيتها برحاباته الحقيقية التي تنتظرك بالحب والشعر والجمال.. سرى وهج الحميمية بيننا في حوارات ومسارات شتى.. بداية دار الحديث عن الشعر، ودور أبيها الشاعر الدنماركي الكبير أيفان مالينوفسكي الذي لقب في الأوساط الصحافية، الأدبية والسياسية الاسكندينافية بعقل الشمال اللامع روت لنا عنه أباً وشاعراً له معجمه الخاص به حتى في المحادثة، حيث كان يرد بجدية على العبارة المتداولة يوميا «كيف حالك؟» بـ»ماذا تعني بذلك؟» إلى وفاته.. وكيف كان يرتدي أي القرن الماضي: السروال القصير الضيق والجوارب السميكة والمداس، وكذلك الجاكيت والقميص.
في كل نعوتها وحكاياتها عنه، كانت تشكو غيابه المفجع بصلابة وقوجة.. بعض ما تعلمته من أب حنون وشاعر كبير أداها المعرفة والجمال. كما ملكها موهبة الأدب وعشق السياسة.
ثمة احتواء حميم في ذلك المنزل الصغير الذي يحتضن الكثير من الكتب في كل الزوايا، وبعض اللوحات التشكيلية، وسجادة كبيرة بحجم جدارية تتوسط مكتبها، تشير إليها بزهو حيث إيقاعات أنامل موهوبة، أنامل أمها التي كانت تتقن العزف على قيثارة النسيج.
خرجنا من المنزل المضمخ بالزهور، في جولة إلى الريف، كنا نغمر أجسادنا برهافات الطبيعة، نلهث بنظراتنا كي نقتنص جماليات أدق العناصر، الضوء النابت في عروق الأزهار، جذوع الأشجار وخضرتها المتناهية كما الأغصان، عبق الرقة في كل شيء من حولنا في الأرجوحة المشرقة في خاصرة الحديقة، في بهجة الصغيرة وحركاتها التي كانت تحاصرنا براءة ورقة ضيافة «ماريكا» ابنة الشاعرة.. فتاة بلون الشمس.. تسترق النظر إلينا بأدب جم، وتذهب بكتابها بعيداً عنا في عالم «سيد الخواتم» تلك الرواية التي ألهبت مخيلة الكبار قبل الفتيان.. «إنني أقرأها للمرة الثالثة!» هكذا قالت لي..
يوم به رائحة الحلم.. عندما كان المطر يبللنا برشقاته العذبة، كنا نمشي في قلب ذلك الجمال النائم متسائلين: هل يخفق القلم بشكل آخر هنا في نص هذه الطبيعة المذهلة؟.. أم للكتابة نارها التي لا تخبو أينما أشعل حطبها؟.. في خصوبة هذه المراعي مع ريح الشمال.. كيف نذهب في لجة هذا الجمال.. ونمنح وقتا «لأجسادنا/ أرواحنا.. عقولنا المجبولة بأملاح مدنها إرثاً وذاكرة.. كيف سيكون المداد في التماعاته قريباً.. بعيداً عن ذلك الفضاء.. في عزلته ولا أرضه..!
وحيدين.. لا أنصحكم بالسفر إلى ريف الدنمارك. إن كنتم عاشقين.. لن تجدي كل هذه الأمطار والخضرة.. فريف الشمال لن يذهب بكم عميقاً إلى آذار القلب دون رفقة بارقة..؟!
شاعرة وإعلامية من البحرين*
بروين حبيب