منذ خطاب النعمة "التاريخي" والغرفة العليا في البرلمان الموريتاني تتعرض لسيل عارم من الإساءات والإهانات، بعض هذه الإساءات أتى من وزراء في الحكومة، وبعضها الآخر أتى من قيادات في الحزب الحاكم، وكان آخر هذه الإساءات هو ما تم تسجيله ليلة السابع عشر من مايو في مبنى المجلس، ففي هذه الليلة التي أعادتنا سنين إلى الوراء قرر عنصر من الحرس غير مكتمل الزي العسكري أن يمنع عددا من الشيوخ من الدخول إلى مقر هيئتهم، وأن يحتجز آخرين داخل الهيئة، فألغى بذلك مؤتمرا صحفيا للشيوخ، وذلك بحجة تنفيذ أوامر عليا، وقد تم كل ذلك أمام أعين الصحافة.
هكذا أُثبِت للشعب الموريتاني ـ وباء أثبت مكسورة ككسر إرادة الشعب الموريتاني ـ بأن إرادة عنصر واحد من الحرس غير مكتمل الزي العسكري أقوى من إرادة الغرفة العليا في البرلمان الموريتاني، وأن هذا العنصر بإمكانه أن يمنع الشيوخ من دخول غرفتهم، وأن يحتجز آخرين داخل الغرفة، وأن بإمكانه أن يفعل كل ذلك أمام أعين الصحافة، وكأنه بذلك أراد أن يبرق إلى الشعب الموريتاني رسالة مصورة تقول بلغة صريحة وفصيحة بأن إرادة ممثلي الشعب الموريتاني يمكن أن تلغيها إرادة عنصر واحد من الحرس غير مكتمل الزي، ولا تسألوني من فضلكم عن الذي يمكن أن يفعله ضابط عسكري برتبة عالية، وإذا ما سألتموني عن ذلك، فإني سأعود بكم إلى ما حدث في صبيحة الأربعاء الموافق 6 أغسطس من العام 2008، ففي ذلك اليوم قرر أول رئيس موريتاني يصل إلى الرئاسة بأصوات الشعب أن يمارس بعض صلاحياته الدستورية، وأن يقيل ضباطا، فكان ما كان.
وحتى لا نغتر كثيرا بديمقراطيتنا العرجاء فنرتقي إلى مقام لا يحق لنا أن نرتقي إليه (مقام كبار الضباط من أصحاب الرتب العليا)، فدعونا نبقى مع صلاحيات أصحاب الرتب الدنيا من العسكر، ودعونا نبقى تحديدا مع عنصر الحرس الذي ألغى إرادة الشعب الموريتاني من خلال إلغاء إرادة الشيوخ، ودون أن يحتاج حتى لأن يلبس قميصه، أو أن يربط حزامه، أو أن يرتدي حذاءه العسكري.
ما حدث في السابع عشر من مايو، لم يكن إلا واحدة من ردات الفعل الحمقى على ما حدث من قبل شهرين، أي على ما حدث في السابع عشر من مارس. ففي يوم السابع عشر من مارس صوت الشيوخ ب "لا" على التعديلات الدستورية، وأثبتوا بذلك بأن بإمكانهم أن يمارسوا حقهم الدستوري، وأن يصوتوا ضد مزاج الرئيس، فيسقطوا تعديلات دستورية لا معنى لها، تعديلات لن تطعم الناس من جوع، ولن تسقيهم من عطش، ولن تؤمنهم من خوف ولا من انفلات أمني، فاستحقوا بذلك غضب الرئيس، بل واستحقوا غضبه حتى من قبل أن يصوتوا ب"لا" على تلك التعديلات العبثية.
لقد بدأ "الغضب السامي والنير" على الشيوخ منذ خطاب النعمة "التاريخي"، والذي تعهد فيه الرئيس بالقضاء على مجلس الشيوخ لتتوالى من بعد ذلك إهانة المجلس والإساءة عليه من خلال المهرجانات التي نظمها الحزب الحاكم لشرح مضامين ذلك الخطاب. ولقد بلغت الإساءة ذروتها عندما وصفت الوزيرة الأمينة العامة للحكومة مجلس الشيوخ بأنه مجرد خزان للفساد أو مجرد غرفة للمزاد العلني تباع فيها وتشترى أصوات المستشارين البلديين.
بعد تلك الموجة من الإهانات جاءت موجة ثانية من الإهانات والإساءات أعقبت تصويت الشيوخ ب "لا" على التعديلات الدستورية، ففي الموجة الثانية من الإساءات انشغل الإعلام الرسمي، وخاصة الإذاعة الرسمية، ببث التصريحات المسيئة إلى مجلس الشيوخ، وتم حرمان عدد من الشيوخ من تجديد جوازات سفرهم الدبلوماسية، كما تمت معاقبة البعض بإقالة أقاربه، وفي هذه الموجة الثانية من الإساءات تم استغلال حادث سير أليم لإهانة أحد الشيوخ وللتجسس على خصوصياته، ولاستغلال حصانته البرلمانية للتشديد عليه بدلا من التخفيف عليه، فمنع من الحقوق التي تمنح لمواطن عادي لا يمتلك حصانة عندما يتعرض لحادث سير مشابه. لقد أصبحت الحصانة البرلمانية كارثة على الشيوخ، فهي تزيد من التضييق والتشديد عليهم، وتحرمهم من الحقوق التي تمنح للمواطن العادي إذا ما ارتكب فعلا مشابها. أما أن يتم التعامل مع الشيخ بنفس الأسلوب الذي تم التعامل به مع عمدتين من الموالاة الداعمة، وأقول الموالاة الداعمة ( أحدهما من الحزب الحاكم والثاني من حزب الوئام) تعرضا لحادثين مشابهين، فإن ذلك مما لا يحلم به الشيوخ في هذا العهد الذي يلغي فيه حرسي بلا قميص، وبلا حزام، وبلا حذاء عسكري، مؤتمرا صحفيا للغرفة العليا في البرلمان الموريتاني.
فإلى متى ستستمر إهانة الشيوخ؟
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل