الأدب لا يعرف الثبات في تجلَيه. إنه دائم التحول. يبدأ أداة للتعبير، ويتحوَل موضوعا لتحليل الوعي بهذا التحول. العالم في حاجة إلى تجديد تأويله، لأنه يتغير باستمرار، وبإيقاع سريع. لهذا، نحتاج إلى تطوير علاقتنا بالأدب، من أجل إنتاج وعي معرفي بما يحدث حولنا وبنا.
وحين كانت الرواية من أكثر الأشكال التعبيرية تشخيصا لهذا التحول، فإنها تشهد تحولات بنيوية، تكاد تخرج عن منظومة التعاقدات المفاهيمية لنظرية الرواية.
يتطلب الأمر، إعادة النظر في أسلوب التواصل مع الرواية. شأنها شأن الحياة. إننا لا نعيش الحياة وفي الحياة بأسلوب واحد. تختلف أساليبنا باختلاف سلوكاتنا. الرواية سلوك ثقافي وتاريخي، وتقترح من ثمة، سلوكا تواصليا محددا بطبيعة اللحظة التاريخية، والعصر والزمن.
تطرح سلوكيات الرواية الراهنة الكثير من ردود الفعل، أو القراءات التي إما أنها لا تنتبه لهذا التحول، أو تعتبره مجرد حالة تطورية في البناء أكثر منه في رؤية العالم، أو أنها تجعله غير مفكر فيه نقديا. غير أن بداية هيمنة هذا الوضع التركيبي للرواية في المشهد العربي، تدعو إلى طرح أسئلة جوهرية حول وضعية جنس الرواية اليوم. وهل بدأنا نعيش ما اعتبره كونديرا في كتابه «فن الرواية» عندما طرح نفس السؤال، حول استمرار الرواية في عصرنا، وافترض الجواب التالي: «لا أدري شيئا، إن ما أعرفه فقط هو أن الرواية لم تعد تستطيع الحياة في سلام مع روح عصرنا: إذا كانت ما تزال تريد الاستمرار في اكتشاف ما لم يكتشف، إذا كانت ما تزال تريد «أن تتقدم» بوصفها رواية، فإنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا ضد تقدم العالم»(1)، أم أن الرواية ستظل مستمرة، لأنها من أكثر الأشكال التعبيرية تبليغا رمزيا وثقافيا للتحولات المستمرة، كما جاء في طرح باختين؟ وهل يمكن قراءة ما يحدث للمنطق الداخلي للرواية اليوم من نظام مغاير للمألوف، تعبيرا عن واقع الانتقال من مبدأ النسبية إلى مبدأ الانفتاح على كل الاحتمالات والممكنات، خاصة مع المنطق التكنولوجي؟ وهل للقارئ دور في هذا الوضع الذي يجعل الرواية اليوم تعيد تفكيك قناعاتها التأسيسية؟ أم أن روح الرواية هي روح الاستمرار، كما قال كونديرا نفسه، ويحتاج الأمر فقط إلى تطوير سلوك القراءة، وفق الأفق المعرفي الذي يتبناه الشكل الجديد للرواية؟.
ما يشجع على طرح مثل هذه الأسئلة، هي الأعمال الروائية التي تأتي بمعايير مختلفة، فيما يخص قوانين الكتابة في جنس الرواية. فبعد أن حددت نظرية الرواية مجموعة من الآليات والمفاهيم التي بموجبها، يتم التعامل مع جنس الرواية، و استلهمت الطروحات النقدية الكثير من تنظيراتها لمكونات الرواية، وتحديداتها المفاهيمية لعناصرها، من النصوص وأبنيتها، تأتي هذه النماذج الروائية الجديدة لتخرق تلك التحديدات، وتكسر أفقية دلالاتها، وتحفز النقد لإعادة التفكير في دلالات مختلفة لنفس المفاهيم، وفق الاستعمالات الجديدة. ونمثل لهذه الأعمال برواية «سرَة الكون» (2) للكاتب الليبي «محمد الأصفر» التي تربك الدرس النقدي الروائي، لكونها تأتي مثقلة بأسئلة الكتابة الروائية، وبالتحديد كتابة «سرة الكون»، كما أن التباسا يحدث في النص بين من يرى ومن يسرد ومن يتكلم. وما يعمَق الارتباك هو تصريح المؤلف/ محمد الأصفر بنفسه عن اسمه داخل النص، وإثارة أسئلة تعودنا طرحها خارج سياق النص. يقول محمد الأصفر/المؤلف داخل «سرة الكون»: «أنا دائخ الآن»(ص 16). وهي جملة سردية تحدد موقع العتبة الذي يوجد به الكاتب، بين أن يكون مؤلفا أو كاتبا أو ساردا أو شخصية روائية.
ليس هناك حدث ينمو في سرَة الكون، ويتطور مع حركية الفعل السردي. ولكن، نلتقي بموضوعات متداخلة بين الاجتماعي والنفسي والتاريخي تنطلق كلها من لازمة «ليبيا جدتي، خميرتي الباقية»(ص11). ومن هذه الخميرة تولد محكيات، تأخذ طابع الحالة، أو الإحساس بالأمكنة والمواد وصفا دقيقا ( بنغازي)، أو حكيا وجدانيا كعلاقة مصر بليبيا من خلال لازمة « مصر أم الدنيا وأنا من الآخرة»(….) المهم أن مصر ليست أمي، وإن كانت أم الدنيا فأنا من أواخر الآخرة»(ص12)، أوسردا لأعمال الآخرين الإبداعية ، أو أعماله. كل حالة تنفتح على أخرى ، وكل حالة تتحول إلى حدث.الأسبقية هنا في النص إلى الحالة، أما الحدث فإنه يأتي نتيجة نضج الحالة سرديا». والآن تهاجمني الكلمات..كلمات..كلمات تتساقط من أعلى تتمسح بحلمات خيالي..ثم تنقر أزرار لوحة الحروف.أجدها على الشاشة أمامي..فلا أمسحها ، الشاشة تقبل وأنا أضغط ما يأتيني»(ص 40). ولهذا، يصبح كل شيء ممكنا، مما يجعل التركيب السردي لدى الأصفر يعيد الحياة إلى اللغة والجماد والإنسان واللهجات الليبية التي تحضر مثل التوابل تمنح للمكان والحالة خاصية ليبية. كل شيء قابل للتحول والتغيير. حركية قائمة بإذن منطق السرد.
بل تتحول الكتابة إلى وسيط للمعرفة. ليس كما هو الشأن بالنسبة لأفق الرواية في النماذج السابقة، حيث الحكاية قد تكون محققة قصة قبل سردها، أو إحساسا غير مكتمل، أو مجرد فكرة، لكن في تجربة «سرة الكون» يدخل المؤلف إلى عالمها في غياب الوعي بها قصة. ولهذا ف»سرَة الكون» تتحقق من خلال مناقشة أسئلة كتابتها. يقول المؤلف/السارد:
«الرواية الآن جيدة لأن لا أحد يعرف شيئا، حتى الكاتب نفسه، حتى أعتى النقاد(…) حتى العناصر ذاتها.(….) والكلمات لا تعرف أين ستتموضع وفي أي قالب إعرابي ستصب»(ص14-15). ولذا، حمل الغلاف فقط عنوان النص، واسم المؤلف، في غياب/تغييب واضح لتجنيس العمل. لا نلتق بتجنيس «الرواية» إلا مع الصفحة الأولى (مجال الكتابة). ليست المسألة عادية، إنما تعبر عن التردد في تجنيس العمل بـ «رواية». يبدأ هذا التردد في التجلي مع بداية قراءة النص، والوقوف عند مجموعة من العلامات التي توثق لاحتضان هذا العمل لأسئلة الكتابة السردية، بل الأكثر من هذا، التساؤل حول الهوية الأجناسية لـ»سرة الكون»، والمؤلف نفسه هو الذي يطرح هذه الأسئلة.
يكمن وراء هذه الأسئلة، سؤالا جوهريا تطرحه «سرة الكون» وهو مرجعية الخيال. تعودنا في الكتابة الإبداعية بشكل عام، والروائية بشكل خاص، ألا نطرح سؤال الخيال، لأن المسألة محسومة في نظرية الأدب. لكن محمد الأصفر يطرح الخيال سؤالا، ليس من حيث مفهومه، إنما مرجعه. من يصنع النص: هل خيال النص، أم المؤلف؟ أم خيال الشخصية أم القارئ/الناقد؟. يتساءل المؤلف: «من هو إله الخيال خالد أم أنا؟ أم أنتم أيها المجانين؟»(ص61 )، وخالد هنا هو صديقه الناقد خالد النجار.
غير أن محمد الأصفر، يحسم تناسل أسئلة الكتابة، باتخاذ قرار حاسم: «سأكتب ما أريد وكيفما أريد»(ص 55). يتخلى عن سؤال التجنيس، لصالح حرية الكتابة. يدافع عن الحق في الكتابة، وبالطريقة التي يريدها، أي أنه كاتب منشغل ـ روائيا- بمفهوم الحرية.حريته في بناء نصه كيفما كان، بل أيضا حرية التخييل. «سأفعل ما أريد وأتخيل ما أحب»(ص56). بل إنه يسخر من الذين لا يخرجون عن القواعد الروائية المألوفة. وسخريته تتم من خلال إعلانه اعتماد مخيلات أصدقائه.
تظهر ملامح الانزياح عن مؤسسة النقد الروائي المألوف، من خلال مكونات النص التي تغادر مواقعها. تخرج الشخصية الروائية «مورينا» من موقعها في منطقة التخييل، وتحاور المؤلف في منطقة الواقع. هنا يحدث تغييرا في مواقع عناصر السرد. عادة، يحدث التغيير مع تجربة كل نص، غير أن التغيير هنا يحدث بحضور عناصر الواقع. كما يصبح المؤلف مرة ضميرا مخاطبا: «تقول لي في الرواية لا أجد صعوبة في الكتابة يا مورينا»، تضيف مورينا» والله ا محمد كلما أقرأ لك وأتمعن في اشتقاقاتك الغريبة للمعاني والكلمات وتأرجحك التلقائي بين الخيال والحقيقة» (ص153)، وأخرى غائبا، تقول مورينا:» كل أسرتي ذهبت للبحر وأنا بقيت في البيت وحدي. لن يأتيني الأصفر هنا»(ص144).
«سرة الكون» تنتمي إلى التجارب الروائية الجديدة التي تعتمد المنطق الترابطي في تدبير نسيجها، وتعتمد – نصيا- على القارئ باعتباره شريكا في إنجاز خطابها.
ولهذا، لا نستطيع أن نتمثل ثقافة النص الرقمي بمواصفاته الترابطية، بدون الوعي بمسار تطور أسئلة السرد التي تتبناها الكثير من الأعمال الروائية والقصصية .
٭ كاتبة مغربية
(1): كونديرا(ميلان): فن الرواية، ترجمة: بدر الدين عرودكي
المجلس الأعلى للثقافة،2001.ص: 17
(2): الأصفر( محمد): سرة الكون
الانتشار العربي، 2006