«الجنازة كبيرة والميت فأر»، هذا المثل الشائع ينطبق على مجموعة من الأعمال الكوميدية وغير الكوميدية التي تُقَدّم خلال رمضان الحالي في المغرب، والتي سبقتها هالة من التطبيل والتزمير والتبشير بالإيقاع بالمشاهد في سحر الفرجة التلفزيونية، ولكن النتيجة في النهاية كانت أعمالا تستحق أن تدخل موسوعة «غينيس» في مجال الرداءة والإسفاف، ويستحق منتجوها أن يحلّوا ضيوفا على برنامج «أخطر المجرمين»، نظرا للخدمات (الجليلة) التي يقدمونها للجمهور المغربي.
ويُلاحَظ أن تلك الأعمال تلتقي في هدف واحد: الضحك على ذقون المشاهدين، إذ تفتقر إلى أفكار جيدة وسيناريوهات محكمة البناء ورؤية فنية واضحة. وفي المقابل، تعجّ بموضوعات سخيفة وحوارات مبتذلة وحركات عشوائية؛ مما يجعل مكانها الأنسب هو مستشفيات الأمراض العقلية وليس شاشات التلفزيون.
ونظرا لكون بثّ المسلسلات الهزلية (أو بالأحرى الهزيلة) يرتبط عادة بأوقات تحلّق الصائمين حول مائدة الإفطار الرمضانية، فقد اصابت الناس بعسر الهضم وبقرحة المعدة وبما يطلق عليه المغاربة (الفقسة) التي هي رديف للحسرة والغصة؛ وإنْ كانت مؤسسة قياس نسبة المشاهدة التلفزيونية تزعم العكس تماماً، من خلال تقديم أرقام ونسب تحاول إثبات أن المغاربة يحمدون الله صباح مساء، ويشكرون المنتجين الذين يُدخلون جرعات البهجة إلى نفوسهم تباعاً، بعدد اللقمات التي تلج البلعوم، وبعدد الإعلانات التلفزيونية التي تقصف الأبصار والأسماع بلا شفقة أو رحمة. ولكن الثناء كل الثناء على الذين اخترعوا منتديات التواصل الاجتماعي الافتراضية، ففيها يجد كل غاضب متنفساً لتفجير حنقه تجاه تلك التفاهات الدرامية.
أغلب الظن أن تلك الأعمال كُتبت على عجل، ونالت رضى وتزكية لجان الانتقاء التلفزيونية بسرعة ماراثونية، وصُوّرت على عجل أيضا… وبما أن العجلة من الشيطان، فالنتيجة تكون حوادث كارثية؛ مما يتطلب التحقيق بكل جدية ـ أمام هذه الكوارث التلفزيونية ـ في الأهلية الإبداعية لمن كَتب، والأهلية النقدية لمن انتقى، والأهلية التدبيرية لمن أنتج هذه المُنتَجات الممسوخة التي تستخف بذكاء المغاربة وبحسهم الجمالي، ولا سيما حين تُقدم لعب الصبيان والمراهقين على أنه كوميديا، وأيضا حين «تُفبرك» مشاهد تمثيلية متواطأ عليها بين «الأبطال» و»الضحايا»، وتقدمها على أساس أنها «كاميرا خفية»، وكذلك حين تكرّس احتكار ممثلين وممثلات بعينهم لأغلب أدوار البطولة في أكثر من عمل، كما لو أن هذه الأرض الطيبة الشاسعة المسماة المغرب لم تلد سوى الممثل الفلاني والممثلة الفلانية. هل ثمة، إذنْ، أزمة ممثلين؟ أم أزمة كتاب سيناريو؟ أم أزمة إبداع وإنتاج؟
إنها أعمّ من ذلك وأشمل، هي أزمة استمرار السلطة في احتكار مجال الإعلام السمعي ـ المرئي وبسط هيمنتها عليه وتكريس توجهات معينة في كل المنتجات التلفزيونية. فلو فُتح المجال أمام الخواص لإنشاء قنوات حرة، لأمكن الحديث عن المنافسة الحقيقية والبحث عن الجودة ولأتيحتْ للمشاهد إمكانية الاختيار والتفاضل بين ما يود مشاهدته وبين ما يصرف النظر عنه.
والمحصلة أن الرداءة التي تطبع مجموعة من الأعمال الكوميدية وغير الكوميدية هي إعلان عجز الحكومة عن إصلاح قطاع الإعلام السمعي المرئي في المغرب.
ريع إعلامي واحتقار للغة الضاد
* ما الحاجة الى دفاتر التحملات الخاصة بقنوات القطب العمومي في المغرب؟ ما الحاجة الى طلبات العروض؟ ما الحاجة إلى لجان اﻻنتقاء إذا كانت ستفرز شيئين اثنين: أولهما هذه السخافات الذي بدأنا نشاهدها في رمضان الكريم. وثانيهما، هيمنة شركات إنتاج بعينها على حصص الإنتاج التلفزيوني؛ وفي مقدمتها شركة يطالعنا اسمها في أكثر من برنامج وسلسلة ومسلسل و… و… أليس هذا الاحتكار نوعا من الريع الإعلامي؟
وبما أن لصاحب الشركة المخرج السينمائي نبيل عيوش – وحده دون غيره من المنتجين المغاربة – قدرة خارقة على إنجاز هذا الكم الهائل من البرامج والأفلام والمسلسلات و»السيتكومات» التي يغرقنا بها في رمضان وفي غير رمضان (اللهم لا حسد)، فمن الأفضل إذن أن تُسلم له مفاتيح إدارة القنوات التلفزيونية المغربية، وأن يتم إلغاء أقسام الإنتاج بها، وتعوّض باسم «امبراطورية عيوش».
الأخطر والأدهى أن المعني بالأمر يستغل تلك الأعمال التلفزيونية لتمرير خطاباته وتصوراته حول المجتمع المغربي وحول هوية المغاربة وثقافتهم ولغتهم؛ كل ذلك بالمال العمومي الذي يضخ له بسخاء وأريحية. وخير مثال على ذلك، قيامه بإقحام موضوع اللغة العربية في حلقة من حلقات سلسلة كوميدية، حيث جعل إحدى الممثلات تسخر من لغة الضاد، لتنتصر في الأخير للعامّية المحلية. وهو الطرح نفسه الذي «يناضل» من أجله رجل المال والأعمال نور الدين عيوش، الذي هو ـ بالمناسبة ـ والد المخرج السينمائي المذكور، إذ أطلق ـ منذ عدة شهور ـ حملة من أجل جعل العامية لغة المناهج التربوية في التعليم المغربي، لكن تلك الحملة جوبهت بمواقف حازمة من لدن عدد من المفكرين المغاربة، وفي مقدمتهم الدكتور عبد الله العروي الذي حرص خلال لقاء تلفزيوني على توضيح تهافت دعاة العامّية وضحالة رؤيتهم.
«نسمة» و»جيم للأطفال» وأرض الكنانة
* شرعت قناة «نسمة» الفضائية، قبل نحو شهرين، في بث المسلسل الديني الشهير «محمد رسول الله». قد يبدو الأمر محاولة من القناة التونسية المذكورة لتصحيح صورتها لدى عموم المشاهدين ولا سيما المسلمين، بعد الضجة التي أعقبت بثها لفيلم كارتون مسيء إلى الرسول (ص) العام الماضي، وأيضا الضجة التي خلفها بث رسوم كارتونية مسيئة للذات الإلهية قبل نحو ثلاث سنوات على القناة نفسها.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فوجود بعض الأحداث والشخصيات التي يحيل عليها مسلسل «محمد رسول الله» يجعلنا نتساءل عما إذا كانت برمجة ذلك المسلسل المصري القديم مجرد محض صدفة أم هو أمر مقصود ومفكر فيه. نعني بذلك، حديث المسلسل عن فرعون وهامان وقارون.
المصادفة أيضا، أن قناة «جيم» للأطفال تبث هي الأخرى مسلسلا كارتونيا تظهر فيه تلك الشخصيات التي ارتبطت بالاستبداد والظلم والطغيان.
قراءة ماكرة تقول إن عيون «نسمة» و»جيم» تشير بالغمز واللمز إلى «أرض الكنانة»، ولسان حالها يردد: «إياك أعني وافهمي يا جارة»!
* كاتب من المغرب
[email protected]
الطاهر الطويل