الولي ولد سيدي هيبه
أين الطرق المعلقة و الأنفاق المختزلة و الأروقة الوارفة الظلال التي تقي المارة حر الشمس الحارقة و تجنبهم اكتظاظ الطرق بالسيارات؟ إنها أبسط متطلبات المدن الكبيرة و الحركة التجارية فيها و ضرورة انسيابية التبادل شريان حياة مواطنيها. إن كل عواصم الدول المجاورة تحظى بهذا الاهتمام و تنعم بسكك حديد و بنى تحتية تتعزز عاما بعد عام ضمن مخططات عمرانية في هذا الاتجاه إن لم تكن كل مدنها بفضل الوعي بضرورة بناء ذلك و توفيره و بإدراك أنه استثمار يدر الخير العميم و يرفع و يقوي قواعد الدولة و يدعم أركانها. ولكن ضعف السياسات المركزية و انحسار التحصيل العلمي و العزوف عن المهني و ارتكاس النهج السياسي لدى النخب و افتقارها إلى الخيال البناء و عجزها عن اتخاذ زمام المبادرات المبتكرة في وقتها و محلها، علاوة على ما يطبعها من الجشع و اقتصار الهمة الخائرة و الطموح الفاتر على البحث الماكر عن المال السهل.. كلها الأسباب التي تقف حتما وراء التخلف الملحوظ على الرغم مما حبا الله به البلد من نعم في البر و البحر. فهل ننظر إلى واقعنا بعين فاحصة مجردة، واعية ناقدة و تصدُق لنا إرادة نافذة إلى مواجهة مأساتنا؟ و هل نجبر القبليين و العصاباتيين و السماسرة ـ باعة الوطن في مزادات نخاسة الشعوب الكسلانة المقهورة ـ على رفع أيديهم عن مشروع بناء سكة قطار التحول؟
هدر كرامة الإنسان
ما مدى علمنا بمسيرات الكرامة التي تنظم في عديد دول العالم؟ و هل لنا تأويل للكرامة؟ أم هل أن هذه المسيرات ـ التي يتم تنظيمها في أغلب دول العالم و تشكل الضمير الواعي و الحي لأممها ـ ضربٌ عندنا من المحال ؟ و ما مبلغ علمنا بذاك الضمير الذي تجاوز مفاهيم الأنانية و الانفرادية و لغة التفاضل العرقي و التباين السلوكي إلى قواسم بناء الإنسان و ضمان كرامته و الحفاظ على حقوقه من سطوة المستأسدين، المتطاولين بزيف أدعائية النقاء و علو الكعب؟ و تبقى الحقيقة المرة أننا أحوج شعوب العالم إلى مثل هذه المسيرات التي تستهدف ضرب قواعد الضمائر السقيمة و نسف كل أنماط التسلط على العقول و الأبدان : حكامات و أحزاب و منظمات المجتمع المدني التي لا تجافي كلها - في قهريتها المكتسبة من فيروس "السيبة" - حقوقَ أفراد الشعب و لا تُعير لكرامتهم وزنا.. فهل تنتظم و تنتفض للكرامة إراداتٌ حرة فتطلق مثل هذه المسيرات السلمية التي تستهدف القضاء على قيم بالية مختلة و بناء أخرى نبيلة.
هل كلام غير مباح؟
من المؤكد أنه ليس مشهدا إسلاميا أن لا ترى في كل مجالات حراك و حياة البلد جميع فئات المجتمع مختلطة في شبه تناغم و مساواة و إن شابها في بعض الأوجه التفاوت الطبيعي دون التمييز المخل.. في يوم الفطر الأغر توجهت ـ بعد أن يسر الله لاقتناء ذبيحة ـ إلى أحد أسواق الماشية العشوائية المنتشرة ما بين الطرف القصي لمنطقة المطار القديم و ما بعد ملتقى "مدريد" باتجاه "روصو"، أسواق حرة لا تخضع لأية رقابة صحية و أمنية. هنا شدني مشهد يدعو إلى التأمل مليا و قد تراءى لي كوميض بعد ظلمة من خلال تمييز فئتين من التركيبة المجتمعية، إحداهما تقتني الذبائح و تقف متفرجة على الأخرى تذبحها و تسلخها، تقطعها، تودعها الأكياس ثم تحملها إلى سيارات أصحابها مقابل أجور زهيدة.. ثم استطردت فلاحظت غياب فئة ثالثة من المجتمع لا هي تحضر لتشتري كالميسورين أو هي تبيع خدمات كالكادحين.. صورة لم أطمئن لها و لا لخباياها التي يكتنفها واقع لا يُلفت انتباها و لا يحرك شعورا أو يقض مضجعا و كأنه أمر طبيعي و ميزان مستقيم.. فهل أسرفت في القول و تحدثت في أمر يجب السكوت عليه؟
هل كتب علينا عداء المدنية؟
كلما طالعتني القنوات التلفزيونية العالمية بجمال حضارات العالم في اختلاف و تفرد طابع كل منها المعماري و عمق تمدن شعوبها و رهافة حس قومياتها عند التعبير عن ذواتها و إبراز مميزات خصوصياتها، أجدني أندب حظنا العاثر مع سمات التحضر، و نضارة الذوق و رهافة الحس، و رشاقة الإيحاء المتمدن في التعاطي السلوكي و التعاملي و سمو النفس بالعمل و الإبداع و رسم معامل التميز.. فهل تغادرنا يوما غلظة البداوة و مكر شعابها الموحشة و قانون أحراشها العارية إلى هدوء و ثبات المدنية اللذين يمليان على العقل التحلي بالحكمة و الاستقامة و العمل المثمر و الانصياع للنظام و التكامل في حيز يتمدد و لا ينفصم؟ أم هل كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا : التمرد على الانضباط و السعي الدائم إلى الكَسب السهل بالتحايل و العصاباتية و الإصرار على نكران مُر الواقع و سيئ الحال، و التأخر عن الركب الأممي، و الادعائية و الكبر و الكسل؟
بأي حال عدت يا عيد؟
مر الشهر العظيم مرور الكرام، فلا الأحزاب و المنظمات الحيوية كانت على مستوى الحدث السنوي فأبانت عن التعاطف مع الفقراء و المستضعفين و مؤازرتهم في الصبر على متطلباته التي أصبحت كثيرة، و لا الدولة سيطرت على جشع التجار و احتكاريتهم و بيعهم بأسعار يزعمون أنها مخفضة المواد الضعيفة الصلاحية نهارا جهارا؛ مواد مضرة حين سئل أحد المستحكمين في حوانيتهم ـ المنتشرة عند ملتقى "مدريد" ـ عن السر وراء حمايتهم من المساءلة أجاب : قوة الظهير جاها و مالا و حضورا في السلطان ! فهل يمر العيد على نحو مرور أيام الصيام؟ عامة تفطر على خلفية الفقر المدقع و العوز المذل، و أقلية متخمة على صلفها و غفلتها.. ميزان مختل و واقع بهذا الوجه مخجل وسط أدعائية تزلزل المسامع بالتدين الموصوم بالفرادة ! فأيه إن جئنا للحق؟
جلباب الكبر و قهر النكوص
لا أجد تفسيرا مطلقا ـ في عصر نكران الذات بقوة العطاء المجرد ـ لحالة اعتدادنا الزائد بأنفسنا و تزكيتها و كثرة ترديدنا، عند كل مناسبة ثقافية أو سياسية أو احتفائية بيوم أو حدث، قصةَ النبوغ الذي ألزمنا أنفسنَا و فرضنا على غيرنا وجودَه و تفردَه و شمولية مزاياه على الدين كله و الأدب جله و اللسان في صحته و فصاحته و استقامة أدائه.. اعتداد تجاوزَ حدَّ اللياقة حتى أضر مرتين. فأما الإضرار الأول فبِنا حيث أنه حلَّ محل الإبداع و الإثبات و المخرج النافع المجددِ في استدراك خطى العصر و تنوير عقول أهله. و أما الإضرار الثاني فبعلاقتنا مع محيطينا الإسلامي و العربي حيث أن ارتكاسنا الفكري و الاستنباطي أبقانا في عهدة الماضي تحاصرنا قضبانه الصدئة و لا نشعر.. نكرر لكل زائر أو مهتم ملحمة الحجيج و نكشف عن صفرة المخطوطات و كأنه تفرد.. و لو كنا زرنا أخر تظاهرة في باريس للمخطوط الإسلامي من أرجاء من القارة السمراء لأدركنا بأن ما نملكه غير حفي بالذكر أمام الكم الهائل الذي عرض في شتى العلوم و الفقه و اللغة و الأدب.. و يسري الأمر على الهند و عديد دول الشرقين الأدنى و الأقصى.. فإذن متى نخلع جلباب الكبر و النكوص الفكري و نعتبر إرث الماضي مطية إن أحسنا ركوبها في الحاضر و طوعناها للمستقبل نكون فرسان اللحاق بالركب الأممي؟
هدر الطاقات و قتل المواهب
أسوة بالمغرب و عديد الدول الأخرى عمدت دولة ساحل العاج إلى تأسيس وزارة مكلفة برصد القدرات الوطنية المهاجرة في أرجاء المعمورة و العمل على عودتها إلى أرض الوطن ليستفيد من حبرتها وعلمها و طاقاتها الخلاقة. و إلى ذلك تعمل الأطقم المكلفة المهمة بتحديد مكامن استيعابها و تشغيلها لخلق الإنتاجية و الاكتفاء و المنافسة بها، و بالمقابل توفير الظروف الملائمة لها حتى تثاب و يقدر مجهودها. و تسعى ساحل العاج من خلال هذه السياسة الرشيدة الحكيمة إلى الاستفادة القصوى من طاقاتها العلمية و التخطيطية و التسييرية لبناء البلد و رفعه إلى مصاف الدول المتقدمة بسواعد و فكر أبنائه الذين لمَّا لم يجدوا في الماضي مكانتهم في البلد هاجروا إلى البلدان التي تقدر العلم و أهله تستغل قدراتهم و مواهبهم لصالحها لكن من هضم حقوقهم المترتبة. لكن المحزن في هذه البلاد و قبل كل شيء هو استمرار نبذ العمل و هوان البلد على أهله مما يبعد كثير التفكير الجاد في استغلال الطاقات المتوفرة لديه، إذ كيف لمثل هذا التفكير أن يجد أرضية لتطبيقه في بلد يطمح فيه المهندس الزراعي إلى إدارة الجمارك و الطبيب إلى أمانة عامة لوزارة ما هربا من الأداء الذي تمليه المهنة التي تعلموها... و أما من هاجر فهرته إلى ما هاجر إليه.