الدراما التركية كقوة ناعمة

خميس, 2014-07-31 18:11

إن الأثر الإشكالي الكبير للدراما التركية على الحياة العربية لا يتأتى من عوامل دينية فقط، بل يعود إلى إحساس العربي الضمني بوجود جسر مهشم ما بين الشعبين التركي والعربي ينبغي إعادة تشييده، حتى وإن كان كان هذا الجسر يقوم في أركانه الأساسية على موضوع الدين. وهو الوتر الذي تلعب عليه المسلسلات التركية بجودة إنتاجها من الناحية الفنية، ومضامينها المؤثرة كرؤية للحياة. حيث تكثر فيها موائد الخمر والأكل الأنيقة، ومشاهد الجنس التي تربك سكونية القيم العائلية والدينية. وتزحزح أساسيات المجتمع المحافظ، بما تحمله من تأثير ثقافي علماني النزعة.
هذا التوجه لا ينفيه العاملون في حقل الدراما التركية بل يقصدونه ويصعّدونه كامتياز لمنتجهم الفني. فالمدير التنفيذي لشركة إنتاج الدراما التركية كريم كاتاي، ومنتج Lognen يتحدث عن ظاهرة معولمة تتحرك في مدار جماهيري واسع وقابلية شعبية عالمية. حيث تقترح هذه الدراما الشكل المتصوّر لتركيا الحديثة وللدبلوماسية التركية أيضاً. التي أكدت بدورها على الهوية واللغة والثقافة التركية في هذا السياق الفني. فالحكومة التركية تلمس ذلك الأثر وتريده عنواناً لتقديم تركيا الحديثة للعالم. ولذلك تستخدم ذلك التأثير كقوة ناعمة، كما يؤكد هذا المنحى البرلماني والوزير ايجمين باقيس Egrmen Bagis. إذ لا يوجد اليوم منتج ثقافي في تركيا يضاهي الدراما من ناحية التأثير. فهي أقدر على تقديم صورة أفضل لتركيا من كل النماذج الفنية والأدبية بما في ذلك روايات أورهان باموك الحاصل على جائزة نوبل للآداب.
العثمانيون الجدّد يعودون مرة أخرى للعالم العربي. ولكن هذه المرة من خلال الدراما. بعناوين متعددة ومغرية تراوح ما بين التحرير الإجتماعي والإبدال الثقافي. والأهم والأخطر أن امبراطورية الدراما هذه لم تعد معنية بمخاطبة الأنظمة والدول. بل صارت تخاطب الشعوب والوجدان الشعبي. من خلال مسلسلات جاذبة للرجال والنساء على حد سواء. وذلك بتقديم نماذج شبه مثالية من ناحية التكوين الجسماني والعاطفي. حيث تراهن على عرض أسلوب الحياة العصرية كمقترح درامي. خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة الجندرية بين الجنسين. ففي هذا الفضاء تستمتع المرأة برؤية نفسها متعادلة مع الرجل في الأفق الإجتماعي.
والأكيد أن هذا النوع من الدراما المحقونة بالرسائل يبالغ في عرض فائض العلاقة الليبرالية ما بين الرجل والمرأة. وصراع الطبقات. والأكثار من مشاهد الحياة المرفهة. والأهم أن تلك المتوالية من الصور والمضامين التي تتناول الحياة العصرية تُطرح من زاوية رؤية ومعالجة تركية مشرقية، وليس من المنظور الغربي، الذي قد يستفز المجتمعات التي تزعم المحافظة. الأمر الذي يخفف حدة التناقض عند الذات التي تشاهد العمل، ويهبها شيئاً من الطمأنينة النفسية. على اعتبار أن هذا المنتج هو رسالة من الصديق الجار، وليس من العدو المستعمر، أو الآخر المناقض للمجتمع من الوجهة الدينية والثقافية. بمعنى أن تركيا الحديثة تقترح على المجتمعات العربية إسلاماً محدّثاً منفتحاً وعملياً، فيه الكثير من الواقعية والمرونة، خلافاً لما يختزنه عقل الإنسان العربي ووجدانه حول سلوك الإنسان المسلم.
إن ما تقترحه امبراطورية الدراما التركية لعلمنة الحياة يقابل بترحيب واسع في الفضاء العربي. فهي دراما مدروسة ومنذورة في جانب منها لرسم خطوط التقارب ما بين الحياة الحديثة والمجتمع المسلم. وهو إشكال تعاني منه تركيا نفسها في مسألة الهوية. وهو أمر لا تتعاطاه الدراما التقليدية سواء في تركيا أو في العالم العربي. إذ لا يوحد لديها ما يستحق التصدير حيث تعطلت فاعلية الدراما العربية بسبب ارتهانها لرأس المال المحافظ ورهاناتها الساذجة على الترفيه السطحي، وبالتالي خلت من جرعات الحداثة ومظاهر الحياة العصرية. وفيما كانت الدراما المصرية والسورية تحديداً تمارسان التقنين في هذا الإتجاه، كانت الدراما التركية تعلن ثورتها في كل مناحي الحياة فتتصدى بجرأة لقضايا الإجهاض والكحول والعلاقات خارج الزواج وصراع الطبقات والإغتصاب والحب المضاد للعادات المقاوم للزمن وتدمير الأنماط الأسرية التقليدية المتهالكة.
ومنذ سنوات تحاول الدراما العربية تقليد منتجات هوليوود العرب والبلقان. إلا أن هذا التقليد لا يلامس جوهر الظاهرة بقدر ما يستنسخ صورتها. وآخر تلك المحاولات مسلسل (سرايا عابدين) الذي أُريد به نسخ مسلسل (حريم السلطان). إلا أن المحاولة لم تنجح. فالدراما التركية استخدمت الممثلين والممثلات كصادرات فنية. وهو أمر تفتقر إليه الدراما المصرية، باعتراف طارق الشناوي. الذي أكد ذلك الافتقار. حيث وصفها عباس النوري أيضاً بالتحدي، بينما تهكم عليها المرحوم أسامة أنور عكاشة. فالمسلسلات التركية (اكليل الورد – سنوات الضياع – نور – فاطمة – حريم السلطان – العشق الممنوع – وادي الذئاب) وغيرها تتوفر فيها خلطة سحرية تقوم ظاهرياً على جاذبية الممثلين واللوكيشنات الباهرة والحبكة والإخراج والتقنية وثيمات الحب والواقعية والحس الإنساني الفائض. وهي خلطة لا يتوفر الحد الأدنى منها في معظم المسلسلات العربية.
امبراطورية الدراما التركية صناعة فنية متمادية تقدر بالمليارات. وتهدف إلى منافسة الإنتاج الأمريكي والهندي. الأمر الذي يعني أنها صارت جزءاً من الدخل القومي. ولا تكتمل شروط قراءة خصائصها إلا بتأمل مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تتجاوز الثقافي والإجتماعي إلى السياسي والتاريخي. فتحويل بيت نور إلى محجٍ سياحي لم يأت من فراغ، أو لمجرد المنفعة التجارية المباشرة. إنما هو أحد الروافد لقوة ناعمة تعادل كتيبة إعلامية. وإغراء السواح بزيارة الأماكن التي تم تصوير المسلسلات فيها من خلال الشركات السياحية يعني الترويج لنموذج حياتي كاسح، يتخطى فكرة السياحة. لأن المسلسل ليس مجرد صورة أو حكاية، بل هو حياة مؤفلمة. 
هناك علاقة واضحة وصريحة ما بين الدراما التركية والحداثة. فالعثمانيون الجدد رسموا معالم امبراطوريتهم الدرامية الآخذة في التمدد. وهي تجتاج مجمل الفضاءات الوجدانية. وتثير فضول المشاهدين للتعرُّف على مواقع تركيا الأثرية والقصور العثمانية والأزياء والمطاعم والمقاهي وحتى المستشفيات. فاللمسة التركية على الدراما هي لمسة هوية وقيمة ثقافية. ولذلك صارت المقاهي والمطاعم والمنازل تضع المؤشر على القناة التي تعرض المسلسلات التركية. فيما صارت الموسيقى التصويرية لتلك المسلسلات هي الزاد العاطفي والروحي للعشاق. الأمر الذي يعني أن التأثير العاطفي للأتراك صار حقيقة أشبه ما تكون بالاستعمار الثقافي المتلفز، حيث تم توطين كل ما يعرض على الشاشة إلى أرض الواقع.

محمد العباس